لماذا أغلق الأرشيف الصهيوني أمام الباحثين

بقلم: غازي السعدي


إن أكثر ما يقلق القيادات الإسرائيلية، على مدى العقود الستة الماضية، مشكلة شعب شرد من دياره، من مدنه وقراه وأريافه، ليتشتت في ديار الاغتراب، قضية أمة، اقتلعت من أرضها ظلماً وعدواناً وإرهاباً، وهم الفلسطينيون الذين طردوا من وطنهم، مشكلة ولادة قضية اللاجئين، ورغم محاولات القيادات الإسرائيلية طمس هذه القضية، بكافة الوسائل والأساليب والطرق، إلا أنها تبقى حية رغم مرور (65) عاماً على عمليات الطرد، فالادعاء بأن الفلسطينيين غادروا بلادهم بمحض إرادتهم أصبحت لا تنطلي على أحد، ورغم إغلاق الأرشيف الصهيوني أمام الباحثين، فالوثائق كثيرة-منها الإسرائيلية- تثبت أن عملية الطرد تمت بمخططات صهيونية، وقرارات إسرائيلية، قامت القوات العسكرية الإسرائيلية بتنفيذها، فإن فكرة الترحيل "الترانسفير"، لدى القيادة الصهيونية إستراتيجية ثابتة، منذ سنوات الثلاثينات، سبقت إقامة إسرائيل، من أجل التوسع، والتنظيف العرقي، وتهجير يهود العالم إلى أرض فلسطين، وهذا ما تثبته وتعززه الوقائع والوثائق الإسرائيلية.
إننا إذ نتطرق وغيرنا إلى هذا الموضوع للمرة الألف، لتسليط الأضواء عليه فمن الضروري إثارته طالما بقيت قضية اللاجئين دون حل، فوزارة المعارف الإسرائيلية، منعت مؤخراً تداول كتاب حول المجتمع العربي في إسرائيل، تم إعداده بطلب من وزارة المعارف، ليكون جزءاً من المناهج في المدارس، وجاء منع الوزارة، لأن الكتاب يشتمل على مواضيع يعتبرونها من المحرمات، منها: قضية اللاجئين، ومسألة الأقلية والأغلبية، والعلاقات بين الجانبين، ووجهات النظر المختلفة تجاه المجتمع العربي في إسرائيل، ومشكلة الأراضي، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، فهذا الكتاب الذي يحمل عنوان "العرب مواطني إسرائيل"، أعد من قبل المركز التكنولوجي التعليمي الإسرائيلي، منع تداوله وتوزيعه على المدارس، فهم يخشون كشف الحقائق، حتى وإن كتبت من قبل باحثيهم، "هآرتس 17-5-2013".
الكتاب الذي نحن بصدده استعمل مصطلح "النكبة"، ولم يخف بأن الحركة الصهيونية بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر، بالسيطرة على أراضي الفلسطينيين بجميع الوسائل والطرق لإنهاء الوجود العربي- الفلسطيني، واقتلاعهم من وطنهم، ويعترف الكتاب أنه في عام 1948، تم هدم مئات القرى الفلسطينية، وطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين، الذين شردوا في دول المنطقة، وصادر الاحتلال أراضيهم وممتلكاتهم، ففي ظل التطورات السياسية، وتراجع العملية التفاوضية لحل القضية الفلسطينية، تراجعت الأضواء عن قضية اللاجئين، وحق العودة، فبينما كانت إسرائيل تتنصل من مسؤوليتها عن هذه القضية، وتدعي بأنهم غادروا البلاد بإرادتهم، وأن أحداً لم يجبرهم على الرحيل، فهذه الادعاءات تتعارض مع قرارات الأمم المتحدة، ومع الوثائق الكثيرة، حتى الإسرائيلية منها، وكشاهد شخصي من داخل الوطن، شاهدت كيف كان الاحتلال يعتقل معظم الرجال والشباب ووضعهم في معسكرات أعدت مسبقاً، ومنها كان معسكر عتليت جنوب حيفا، ثم كانوا ينقلونهم بالشاحنات إلى خارج الحدود الفلسطينية، ويطردونهم للدول المجاورة، وحسب اعترافات إسرائيلية قديمة وحديثة، تثبت قيام الاحتلال بعملية ممنهجة ومدروسة، ومخطط لها سلفاً، للتخلص من المواطنين الفلسطينيين، وهذا تكرر في حربي عام 1956 و 1967.
إسرائيل تخشى كشف هذه الوثائق، حيث كان "دافيد بن غوريون" أول رئيس لحكومة إسرائيلية هو الذي وضع خطط التهجير وعمليات التطهير العرقي في فلسطين، وهذا ما يتبين من محاضر جلسات الحكومة الإسرائيلية، في سنتها الأولى، حيث كان "بن غوريون" يأمر قيادات جيشه بتنظيف البلاد من الفلسطينيين، مما دفع بحكومة إسرائيل الحالية إلى اتخاذ قرار بإغلاق الأرشيف الصهيوني الذي تتوفر فيه جميع الوثائق الدامغة المتعلقة بطرد الفلسطينيين، وحجب إطلاع الباحثين والجمهور على وثائق ومستندات عمليات طرد الفلسطينيين، "هآرتس 18-5-2013"، هذا الأرشيف يتضمن مداولات الحكومة وقراراتها عن تلك الأحداث، فالوثائق التي تم الكشف عنها حول ترحيل الفلسطينيين، والمذابح التي نفذت بحقهم، وجرائم الاغتصاب التي ارتكبها جنود إسرائيليون، وسائر الأحداث التي ترى فيها المؤسسة الحاكمة محرجة وإدانة لها، تم تصنيفها بالسرية للغاية، فقد طلب "بن غوريون"، من أبرز المؤرخين والمستشرقين اليهود، توفير الأدلة التي تثبت أن الفلسطينيين هربوا في ذلك العام، ولم يتم ترحيلهم، لاستباق الرواية الفلسطينية، فإسرائيل تخشى من أن الأدلة المتعلقة بترحيل الفلسطينيين، ستزيد من ضغط العالم عليها لإعادتهم، خاصة أنه لم يتم إثبات الادعاءات الإسرائيلية، بأن زعماء عرب ناشدوا الفلسطينيين الرحيل، ليعودوا إلى وطنهم لاحقاً، بعد هزيمة إسرائيل وفقاً لجريدة "هآرتس"، غير أن معظم المؤرخين والباحثين الذين تولوا هذه المهمة، أكدوا أن "بن غوريون"، كان على علم بشكل مباشر بعمليات الترحيل، بل أنه هو الذي أعطى التعليمات بترحيل أكبر عدد من الفلسطينيين.
في السنوات الماضية، لم يجرؤ أحد من الإسرائيليين على الاعتراف العلني بأن إسرائيل هي التي هجرت الفلسطينيين، لكن اليوم، واعتماداً على أبحاث المؤرخين الإسرائيليين الجدد، لم تعد الرواية الإسرائيلية الرسمية بالنزوح الطوعي للفلسطينيين، هي السائدة في إسرائيل، وأن إغلاق الأرشيف الصهيوني أمام الباحثين لدليل على أن هناك ما يريدون إخفاءه من وثائق بهذا الشأن.
لقد أفادت محاضر اجتماعات الحكومة الإسرائيلية عام 1948، بأن "بن غوريون" اقترح على وزارته احتلال الضفة الغربية، بما في ذلك القدس ومنطقة بيت لحم والخليل، للقيام بتهجير (100) ألف فلسطيني آخرين للخارج، "هآرتس 3-3-1995"، وهناك وثيقة إسرائيلية خططت لاحتلال المملكة الأردنية الهاشمية، وتقسيمها بين إسرائيل والعراق والسعودية، بهدف حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وتوطينهم في العراق، "يديعوت احرونوت 15-10-1995"، غير أن اختلاف وجهات نظر القادة الإسرائيليين، وعدم موافقة واشنطن، حالا دون تنفيذ هذا المخطط.
وأخيراً .... فإن ما يجري حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، من الاستيلاء على أراضي وأملاك الفلسطينيين، والمشاريع الاستيطانية التي يزرعون الضفة الغربية بها، لتضييق الخناق على الفلسطينيين لحملهم على الرحيل، هو نسخة مكررة لما قامت به إسرائيل في منطقة 48، فإسرائيل تريد البلاد دون مواطنيها الفلسطينيين، وهذا ما يجري حالياً لعرب النقب، بقيام الاحتلال بهدم قراهم، للاستيلاء على عشرات آلاف الدونمات بتشريعات غير قانونية من قبل الكنيست، وقيام إسرائيل بهدم مساكن المواطنين الفلسطينيين في الأغوار، في عملية مكشوفة ومعلنة للاستيلاء على أراضيهم، فكيف يمكن التحدث عن السلام، وإقامة الدولتين، في ظل هذه الإجراءات الإسرائيلية المعلنة، وأن الحديث عن السلام والمفاوضات تتخذ منه إسرائيل غطاءً لتنفيذ أحلامها وفقاً للأسس التي وضعتها الحركة الصهيونية العالمية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت