الربيع العربي و"خريطة الدم الأمريكية"

بقلم: عباس الجمعة


امام ما يجري في المنطقة نرى ان رائحة التطرف والتآمرعلى قضايا الأمة العربية قد بدأت منذ الكذبة الديمقراطية التي اطلقتها اميركا بعد احتلالها العراق وهي اليوم تظهر جلية وواضحة من خلال المواقف الامريكية المنحازة بشكل سافر الى كيان الاحتلال الصهيوني ، اضافة الى رعاية الادارة الامريكيةللثورة المضادة في المنطقة العربية حيث نرى فصول الخراب العربي وتفتيت المنطقة من خلال النعرات الطائفية المذهبية والاثنية ومحاولة عرقلة حل الحوار الوطني للازمة في سورية.
المفارقة التي يصعب فهمها أو اللغز الذي يصعب حله أن الانقلاب التي حصل على الثورات العربية من خلال الثورة المضادة تحت راية الاسلام السياسي المزعوم لم يقدر له المرور في أكثر بلدان المنطقة قحلا وصحراوية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وأعني هنا الممالك والمشيخات الخليجية المفصلة على مقياس ومزاج أسر وعائلات مرتبطة مباشرة بالغرب ومصالحه، ما يدعو لطرح عشرات الأسئلة المستفزة حول شرعية هذا الربيع ومبرراته إذا كان ممنوعاً ومحرماً على بعض الشعوب والمثال هنا شعب البحرين الذي يتعرض لشتى صنوف القهر والظلم .
لا أحد ينكر أن رحم الأنظمة الدكتاتورية القمعية المستبدة التي اطيح بها بعد انتهاء دور زعامتها اتت بشكل سريع من قبل القابلة الأميركية ، حيث تم إجراء عملية قيصرية أطلقت عليها وهي دعم حرية الشعوب اي ضمن ما يسمى 'الربيع العربي'، والمؤشرات الأولية لهذه العملية تشير إلى نجاحها إلى حد ما في كثير من جوانبها وتحديد في ليبيا ومصر وتونس، من خلال الإتيان بأنظمة بديلة بنكهة إخوانية إسلامية مطواعة منقادة يسهل التعامل معها، وتفتقد إلى الخبرة في الممارسة السياسية، لديها القدرة على التأثير والإقناع عبر طابور واسع من المفتين والوعاظ الذين سيقع على عاتقهم تبرير مواقف الأنظمة الجديدة وخطواتها المطلوبة أميركياً.
إن الترتيب الأميركي الجديد للمنطقة يقوم على أمرين، الأول: الواجهة الأخوانية الإسلامية الشكلية فقط، لأن في الثوابت الأميركية ـ الصهيونية ممنوع قيام دولة إسلامية حقيقية، الثاني: سيطرة 'الفوضى الأميركية الخلاقة' في كل قطر بتغذية نزعات الانفصال والتناحر عبر تأجيج الصراع الطائفي والمذهبي، والتحريض والتأليب وإدارتهما بين التيارين الإسلامي والليبرالي والعلماني على النحو الذي نراه الآن في العراق من تنازع وتشاحن، أو بين مختلف الطوائف الدينية والمذهبية في البلدان العربية.
وللأسف لم يصح العرب ، وأصبح العرب بلا ناموس، وما زال انحطاطهم كابوساً، يتآمرون على بعضهم كما يريد أسيادهم، الذين هدموا سياج الأمة الثقافي الروحي، ونصبوا على حدودها مشانق تحت حجة الديمقراطية، وأصبح العرب في مهب الريح يتسابقون للحصول على مباركة من يد ملطخة بالدم العربي، وهي تهدم أساسه حتى تصدع، وما زالوا حتى اليوم يحكمون بكلمة توجيهية من فم جاسوس صهيوني، ربما عربي الولادة ولو على حساب مقدساتهم وحقوقهم، ولا يفرقون بين من يقاتل عدو الأمة الكيان العنصري الصهيوني، ويهزمه، ومن يبيع القدس وحق العودة.
فالشواهد كثيرة وماثلة للعيان، إذ أعاد الربيع العربي المهيمن عليه من قبل ما يسمى الاسلام السياسي ليبيا مائة عام إلى الوراء، كما أعاد مصر إلى زمن التناحرات الطائفية وثقافة الإلغاء، والعراق الى التناحر، وما يحدث ما هو إلا مقدمة للواقع الأسود الذي ينتظر هذه البلدان في حال استمرت في إغماض عيونها عما يدبر ويخطط لها من مشروعات التقسيم والتفتيت على أسس طائفية ومذهبية وإثنية، وليس حال تونس بأفضل من جيرانها، فقد تلاشت الآمال وانتهت 'الثورة' إلى مجرد رقابة صارمة وتعصب متنام وبطالة.
اِن الاختلاف والمغايرة للحدث العربي المشروع على حالته الخاصة، وديمقراطيته وحريته الخاصة، يسمح بتبويب التحولات وتغيراتها العربية في فئات أو حالات ثلاث: الأولى والتي تُدرج فيها كل من تونس ومصر واليمن وليبيا، والثانية التي تشمل كلا من البحرين وعمان والأردن والسعودية، والثالثة التي تنفرد للحالة السورية بعينها.
ان ما يجري في سوريا بين النظام و القوى المتشددة الدعومة من قوى خارجية لها مصلحة حقيقية في إدامة الأزمة واستمرار نزيف الدم السوري، ونحن نرى الهجمة التكفيرية المعززة بقطعان المرتزقة الأجانب الذين جاؤوا من ثلاثين بلداً في العالم يحملون فؤوسهم الجاهزة لقطع رؤوس أبناء سوريا، حيث تستنفر دول الاتحاد الأوربي، حيث نرى ما يفتعله ما يسمون انفسهم بالمعارضة المسلحة في سوريا ومخيمات الشعب الفلسطيني والتي ليس له علاقة بمشروع الديمقراطية والحرية والمطالب الشعبية المحقة، وظهر على حقيقته مشروع دولة استبدادية جاهلية، تستغل مشاعر الأبرياء من الناس وتقودهم إلى المجهول، بل حتى للتعاون مع إسرائيل، لكن واقع الأمر يؤكد إن هذا التبدل التكتيكي لم يكن نتاجاً لسياسة أمريكية جديدة تقوم على احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها ، ان الحل السياسي ليس بهذه البساطة التي يعتقدها البعض، وقد تكون الأيام القادمة أصعب مما مضى، مع قناعتنا بأن مؤتمر جنيف سيعقد رغم كل المعوقات للأسباب الآنفة الذكر، ولأن هناك توافقاً روسياً - أمريكياً على ذلك، ويجب أن لا ننسى أن لسورية أصدقاء: روسيا - إيران - دول (البريكس) وشعوب العديد من الدول الأخرى، وتجلى ذلك في التحركات الشعبية في عدة دول عربية وغير عربية.
فالشارع والميادين العامة والساحات لازالت تعيش حالة حراك جماهيري، مؤكدة أن ما جرى لم يحقق إرادة وطموحات ومطالب الشعوب العربية، ، حيث ترى القوى والاحزاب والجماهير العربية لغة الخطاب السياسي الاجتماعي لقوى الإسلام السياسي، والتي تتعامل مع قضايا الشعوب والأمم بمنطق القبيلة والعشيرة، وليس بمنطق الوطن الشامل الجامع، أي أننا نعيش مشهداً مفتوحاً على متطلبات هيمنة قوى الاسلام السياسي ومصالحه وتعاليمه، وهذه القوى متصالحه ومتماهيه مع الأوامرالأمريكية، ومع مصالح الغرب الأوروبي، الأمر الذي جعل من غالبية قوى التغيير الوطنية والديمقراطية والقومية الاستجابة إلى مطالب الشعب من اجل إسقاط الدكتاتوريات الجديدة، والتي تخلت عن مجمل وعودها الانتخابية ووضعت مصر وتونس وليبيا كلها، تحت عباءة الأخوان المسلمين والذين يتفيؤون بالمظلة الأمريكية.
وفي ظل هذه الظروف نرى الهجمة على المقاومة التي تجعل من كل الشرفاء التمسك بها أكثر من أي وقت ، ليفهم بعض من لا يدركون معنى الكلام، ان الشعوب المؤمنة بخيار المقاومة ستقف بمواجهة هذه الهجمة ، هذه المقاومة التي تخوض معركة الدفاع عن الأمة وتقدم نموذج فذ للمقاومة والتحرير عربياً وعالمياً، وهي من صمدت وانتصرت عام 2000 وعام 2006 وافلشت مشروع رايس الشرق اوسطي ، من اجل بداية فجرٍ عربيٍ جديد .
وامام كل ذلك نشهد ما ينفذ من جرائم بحق الشجر والحجر والبشر في فلسطين ، حيث يستمر الكيان الاسرائيلي العنصري بسياسة الاستيطان وتهويد المقدسات ، متناغما مع جولات كيري للمنطقة من اجل تنفيذا لما يسمى ب " خطة السلام الأقتصادي " بينما أطلقت مجموعة من كبار رجال الأعمال الفلسطينيين والإسرائيليين مبادرة أسموها"كسر الجمود"لإحياء المفاوضات (وكأن هناك بلداً مستقلاً اسمه فلسطين؟!) ونحن نقول بكل وضوح لا يمكن لمطلق فلسطيني وعربي غيور فهم موافقة رجال الأعمال الفلسطينيين ,على التعاون مع أمثالهم الإسرائيليين , إلا من زاوية تصب أيضاً في خانة التطبيع المجاني مع العدو الصهيوني، وان ما يتم لا يخدم نضال الشعب الفلسطيني ويتساوق مع السياسات والضغوط الأميركية على الطرف الفلسطيني للعودة للمفاوضات والحلول الثنائية والعقيمة وفق اشتراطات حكومة الاستيطان والعدوان.
إن صاحب الحق لا يمكن أن يتخلى عن حقه، ومهما كانت الظروف والمطلوب الأميركي ـ الصهيوني من الفلسطينيين هو التخلي عن حقهم في وطنهم، وفي قدسهم، وفي أرضهم، والتخلي عن كل ما لهم في الوطن المحتل، وتسليم اللص الغنيمة والتسليم له بحق امتلاك ما اغتصبه أو ما سلبه.
لا يستطيع أي فلسطيني أن ينوب عن شعب فلسطين لكي يتخلى عن حقوقه في القدس وفلسطين، وإذا كان البعض أعلن استعداده لتبادل الأراضي فهذا أمر ليس في الحقيقة من مهامه، وليس في مقدوره أو من حقوقه، التخلي والتنازل والتفريط أمور مرفوضة ومستحيلة فلسطينيا. والفلسطيني يؤمن أن وطنه فلسطين غير قابل للقسمة على اثنين في أي حال وتحت أي ظرف.
ان الإستراتيجية الأمريكية التي تقوم على دعم القوى المتطرفة تحت يافطة "الربيع العربي"، هي الوجه الحقيقي لـ"خريطة الدم الأمريكية" التي اغرقت العراق بالدم والتي تقضي كما رأينا بإغراق الشارع العربي بالدم، بل إن المؤامرة لن تتوقف عند سوريا والاقطار العربية التي تشهد حالة الغليان ، بل ستمتد نيرانها في وقت لاحق لتحرق حلفاء الولايات المتحدة التي ارتضوا أن يكونوا وقوداً رخيصاً لهذه المؤامرة الأمريكية البشعة.
ختاما : لا بد من القول ان المستقبل سيكون مزدهرا ، لن يكون لأولئك المتخاذلين، بل سيكون مستقبل الانعتاق والتحرر والعودة إلى امتلاك القرار وصياغة المجد العربي الذي نراه في الأفق ونؤمن بكل ثقة أنه آت، وان الحق العربي والفلسطيني يرفع صوته بوقاحة عن عشقه للسلام العادل وليس "الاستسلام"، وليس التطبيع مع العدو الصهيوني ، وان اي انتقاص من انتصار المقاومة وصمود وتضحيات الشعب الفلسطيني، وهو انتقاص من قيمة هؤلاء الذين باعوا ضميرهم ، فنحن عشاق للحرية والسلام الحقيقي مع كل من يستحق السلام على غير الطريقة الامريكية والنموذج الصهيوني..
كاتب سياسي

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت