جولات كيري المكوكية الى المنطقة وكثرة اتصالاته وأقواله ولقاءاته، وكثرة التسريبات عن المبادرة التي يطبخها جعلت السياسيين على خلاف الاعلاميين يضبطون ساعاتهم وفق جدول يومياته منتظرين بترقب ما قد تسفر عنه جهوده، بينما الاعلام الإسرائيلي والأمريكي يقلل من أهمية جهوده؛ بل ويسخر منها ويتساءل مستغرباً: كيف يهدر هذا الرجل وقته؟! وكيف يبيع نفسه والاخرين وهماً هو يدرك قبل غيره استحالة تحققه في ظل تباعد مواقف الأطراف بشكل يستحيل الجسر بينها؟!.
فما الذي يجعل رجل مثل كيري له من الحنكة والذكاء والمعرفة والخبرة يستبعد معه السذاجة او ترف الانجذاب لأضواء عدسات الكاميرات يبذل جهداً كبيراً ويتنقل في جولات سريعة، يستمع للزعماء والخبراء ولكل الأطراف ويشرح بأناة وصبر، مستعيناً بوعود غامضة وكلام جميل عن السلام، وإن تطلب الأمر يكون مهدداً أو ضاغطاً مرهوناً بمن يحادث، رغم ادراكه التام أن اسرائيل وحكومة نتنياهو ترفض قطعياً ما يمكن أن يقبل به الفلسطينيين كحد أدنى، والاستيطان وتصريحات أقطاب الحكومة وتوجهاتهم على الأرض تنذر بحتمية فشل أي مبادرة سياسية حتى قبل أن تولد.
الا أن جون كيري لا يصاب بالإحباط ولا يتسلل اليه اليأس، لأنه لا يسعى - كما يروج عربياً أو كما يفهم البعض - إلى حل يفضى الى انهاء الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة على الارض التي احتلت عام 67 وعاصمتها القدس، فجلّ مبتغاه ينحصر في أهداف آنية سريعة ممكنة، وأخرى بعيدة المدى ذات طبيعة تراكمية تنطوي على فرصة قليلة مشجعه له.
الأهداف السريعة لمناورات كيري تتمثل حسب أولوياتها في:
- صيانة حالة العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية لنزع شبح فتيل الانفجار والتصعيد الذى قد يقلب الطاولة ويعيد خلط الأوراق بطريقة يصعب معها استشراف مخرجات الحالة، وذلك في ظل انسداد آفاق التسوية وافلاس النهج التسووي، وعجز القيادة الرسمية عن تقديم البديل بعد أن تخلت عن كل بدائل المفاوضات وعن أوراق الضغط الممكنة، ولأن السياسة ومقاومة استمرار الاحتلال واعتداءات المستوطنين لا تعترف بالفراغ السياسي، وستعرف في حال استمراره كيف تملؤه بديناميكية رد الفعل الذاتي، فملء الفراغ
السياسي هو ما يحاول أن يقوم به كيري، وهو ما يسمى بصيانة الحالة، وما اعتادت علية الادارات السابقة.
- اثبات الحضور السياسي الأمريكي في المنطقة عبر استمرار احتكار رعاية عملية السلام، وهو أمر لن تتخلى عنة أمريكا خدمة لإسرائيل أولاً، ولما يمثله الصراع العربي الإسرائيلي من أهمية بالغة على استقرار المنطقة.
- ثني الفلسطينيين عن الذهاب للمؤسسات الدولية، ووقف حملة نزع الشرعية عن الاحتلال، ويعتبر الهدف الأهم لكيري ضمن أهدافه السريعة إدخال الفلسطينيين الى غرفة المفاوضات المباشرة دونما شروط او مرجعيات او جداول زمنية، مفاوضات مباشرة مع استمرار الاستيطان واللاءات الاسرائيلية المعلنة لن تؤدى الا لشرعنة الاستيطان، وتجميل وجه الاحتلال وحكومة اليمين في حملة دعاية مجانية وتنكل على الموقف والثوابت الفلسطينية حتى لو لم يتم فيها تقديم تنازلات رسمية، وستعزز مسيرة التطبيع الذى يعيش حالة غريبة من السيولة، ولن يكسب الفلسطينيين الا بعض الرشاوى الاقتصادية.
أما الأهداف المرحلية فتتمثل في:
استثمار الحالة العربية وتوظيفها على مستويين؛ الأول: احداث حالة اختراق على الجبهة السياسية العربية "اعلان لجنة الجامعة العربية ترحيبها بتبادلية الأراضي"، وادخال اسرائيل الى منظومة الفعل الرسمي العربي المستتر عبر بوابة الاصطفاف في الحرب على "محور الشر" في اطار مناورة مقايضة المواقف والمساعدات الامريكية، يؤدى الى التنسيق والتطبيع مع إسرائيل، وما يجرى الآن من تسليط الضوء على ما يسمى بالخطر الشيعي والمطامع الفارسية في بلاد العرب لا يخدم الا المقارنة غير المباشرة السطحية الساذجة بين "مطامع الامبراطورية الشيعية الفارسية الخطيرة على العرب" وبين "اسرائيل شمعون بيرس" الذى يذرف دموع التماسيح على دماء السوريين ويفنى وقته في "جلب السلام والازدهار لدول المنطقة، وهو لا يطمع الا بحدود آمنة لدولته تتجاوز قليلاً حدود الـ 67".
اما المستوى الثاني فهو ممارسة العرب للدور الحاضن والمشجع للقيادة الرسمية الفلسطينية والضاغط والناصح لهم بضرورة التجاوب مع الجهود الامريكية لإحياء عملية السلام، وتسويق هذه الجهود على أنها تعكس قناعات وتوجهات حقيقية أمريكية وفرصة جادة وقد تكون الأخيرة فلا تضيعوها، وكأنهم يقولون: "نتنياهو من أمامكم، وعرب أمريكا خلفكم، وان لم تتجاوبوا فالويل بانتظاركم".
من المؤكد ان كيري يسمع أقوالاً مشجعه من محدثيه العرب والفلسطينيين او على الاقل صمتاً مرتبكاً او تحفظاً او مطالب مخففة تحفظ ماء الوجه ولم يعد يسمع رفضاً واضحاً، فقد كان من اللافت ان تغيب اشتراطات الرئيس عباس لوقف الاستيطان قبل الشروع ووضوح المرجعيات واولويات المفاوضات قبل الشروع بالمفاوضات في خطاب عقبة دافوس وفى تصريحاته وتصريحات المسؤولين الفلسطينيين والعرب، وكان من اللافت ايضاً حضور كبير للاقتصاديين الفلسطينيين والاسرائيليين واتفاقهم على ما يسمى بمبادرة رجال الاعمال لتشجيع السياسيين للعودة للمفاوضات في ترجمة غامضة لسلام نتنياهو الاقتصادي وفى تبنٍ واضح لتوجهات كيري التي تتبنى طريقة الحل بالتجزئة انجاز ما يمكن إنجازه، التدرج تصاعداً وفق مقياس الصعوبة والاستمرار في التفاوض وبناء "الثقة" حتى لا ينته الامر رسمياً الى حل مرحلي او مؤقت، أي انعاش الاقتصاد والمفاوضات والامل كبديل للجمود أو الفشل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت