تهافت دعوات السلام الإقتصادي

بقلم: علي بدوان


انتهت الجولات الخمس لوزير الخارجية الأميركي جون كيري للمنطقة دون احداث أي تقدم يذكر على صعيد ملف المفاوضات الفلسطينية مع الطرف الاسرائيلي وعلى حد تعبير المثل الشعبي الفلسطيني (تيتي تيتي مثل مارحتي جيتي). فالجولات الخمس انتهت عند حدود الاشتراطات الاسرائيلية الجديدة التي أعاد تكرارها رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو والعديد من أركان حكومته.

الجديد في كل الجولات التي تمت أن الوزير جون كيري بات مُنظراً لمقولات مُستنسخة عنوانها السلام الاقتصادي وسنغافوره قطاع غزة، وهي مقولات ثَبُتَ تهافتها منذ أن تم اطلاقها في الفترات الأولى من انعقاد مؤتمر مدريد للسلام نهاية العام 1991 والتي انتعشت في السنوات الثلاث الأولى التي تلت من توقيع اتفاق أوسلو الأول في حديقة البيت الأبيض الأميركي في 13/9/1993 .

الذي يُجرّب المُجرب عَقلَهُ مخرّب

فدعوات السلام الاقتصادي باتت الباب والمدخل الذي يحاول الوزير الأميركي الولوج منه لإحداث نقلة نوعية في مسار عملية المفاوضات المتوقفة منذ زمن بعيد بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ولدفع الطرف الفلسطيني للقفز عن مَطلبهِ بوقف عمليات التهويد والاستيطان، حين أعلن قبل أيام خلت وفي منتدى (دافوس) الذي عُقِدَ بمنطقة البحر الميت بالأردن عن خطة تنمية بقيمة أربعة مليارات دولار لاحياء الاقتصاد الفلسطيني، وتنمية الضفة الغربية على وجه الخصوص في مسعى منه لإحياء مفاوضات التسوية، وذهب أكثر من ذلك بالدعوة لإنشاء مطار فلسطيني في منطقة أريحا ليكون نافذة الكيان الفلسطيني المنشود على العالم بأسره.

ومن الواضح، بأن دعوات السلام الاقتصادي وما تحمله من تجميل للحالة السياسية الراهنة على صعيد العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية لا تعدو عن كونها محاولات لتسويق أوهام، وخداع للرأي العام وحرق للوقت لصالح اسرائيل وسياساتها القائمة على الأرض بالنسبة لعمليات التهويد الجارية دون توقف بالرغم من تعالي الصيحات الفلسطينية المنددة والمطالبة بوقف استباحة الأرض ونهبها خصوصاً في منطقة القدس ومحيطها.

وفي الانطلاق من حسن النوايا في قراءة المشهد، فإن الوزير الأميركي جون كيري يحاول عمل أي شيء ملموس دون ادراك عميق لأخاديد ومسارات الصراع في المنطقة، أو بادراك ما لكنه يحاول تسويق أوهام سبق تهافتها منذ سنوات طويلة، فالداء الرئيسي سببه وجود الاحتلال، فالفلسطينيون وبالرغم من انقسامهم ومن أوضاعهم الصعبة تعلموا من تجاربهم المريرة فـ(الذي يُجرّب المُجرب عَقلَهُ مخرّب).

وانطلاقاً من ذلك كان الرفض الفلسطيني العام لما تقدم به جون كيري في جولته الأخيرة وماسبقها من جولات، وقد رفض تلك الأطروحات والمواقف جميع القوى الفلسطينية بما فيها حركتا فتح وحماس، ليس من موقع (الرفض الأعمى) أو (الرفض من أجل الرفض) بل من موقع الادراك الواعي بأن الوزير الأميركي يحاول الخروج عن لُبَاب الجوهر ليدخل في الثانوي من أجل اضاعة ما هو مطلوب من الطرف الاسرائيلي وبالتحديد في ممارسة الضغط على الدولة العبرية الصهيونية من أجل وقف سياسات التهويد والاستيطان واحداث التغييّرات الديمغرافية على الأرض.

الترابط بين الحلين

فالفصائل الفلسطينية أجمعت على رفض الموقف الالتفافي لوزير الخارجية الأميركي جون كيري على مسألة وقف التهويد والاستيطان من خلال الحديث عن انعاش الاقتصاد الفلسطيني، في محاولة منه لاستئناف المفاوضات، مشددة على أنه لا تنمية مستدامة

في ظل الاحتلال، وعلى ضرورة الترابط بين الحل الاقتصادي والحل السياسي وفق أسس عملية السلام، فالاقتصاد الحر والمُستدام لا يعيش ولايستمر في ظل الاحتلال.

ان الادارة الأميركية بشخص الرئيس الأميركي باراك أوباما في دورة رئاسته الثانية تحدثت بشكل متواتر عن مبادرة سياسية ومن ثم تم ارسال وزير الخارجية جون كيري في جولات مكوكية، لكن لم يتحدث أحد عن الخطة السياسية التي ستقود الى فتح مسار سياسي حقيقي ومتوازن حتى الآن. فزحف عمليات التهويد والاستيطان في القدس والضفة الغربية لا يتوقف، وعمليات مصادرة الأرض تتواصل، وحجم اجمالي المستوطنات يتزايد ويتراكم في الضفة الغربية، وبلغ الآن نحو (539.930) ألف دونم من أراضي الضفة الغربية، في حين صادرت حكومة نتنياهو قبل فترة ليست ببعيدة نحو ثمانية آلاف دونم لتوسيع وبناء مستوطنات جديدة. ومن المهم في هذا السياق الاشارة الى أن ربع مساحة الضفة الغربية والبالغة نحو (588) ألف كيلومتر مربع، تم ابتلاعها بشكل عملي لصالح المستعمرات المقامة والتي يقيم فيها نحو نصف مليون مستوطن يهودي، عدا عن مستعمرات منطقة القدس.

ان الولايات المتحدة تحاول صرف الأنظار عما هو مطلوب من الاحتلال وخاصة تحميله من قبل أطراف دولية مسؤولية اغلاق وتعطيل مسار الحل الحقيقي للتسوية المنشودة وفق قرارات الشرعية الدولية التي قَبِلَ بها الاطار الرسمي الفلسطيني بالرغم من الاجحاف والظلم الكبير الذي تحمله للشعب الفلسطيني ولحقوقه الوطنية والتاريخية والشرعية فوق ترابه الوطني والقومي.

والآن وبعد نهاية الأشهر الثلاثة من مبادرة الوزير جون كيري التي مقرراً لها أن تنتهي في السابع من يونيو 2013 القادم، والتي سبق وأن أطلقها في جولة سابقة وفيها دعوته للتجميد المؤقت لعمليات الاستيطان (لاحظوا التجميد المؤقت ...!) تتعرض منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وعموم الحالة الفلسطينية من حركة حماس وحركة فتح الى آخر تنظيم فلسطيني لضغوط أميركية بالتجاوب مع اسرائيل، لتمديد طلب الوزير الأميركي جون كيري ثلاثة أشهر حتى سبتمبر القادم، والامتناع الفلسطيني عن الذهاب لدخول أي من مؤسسات الأمم المتحدة، فهل سيقبل الفلسطينيون هذه المرة المطمطة الأميركية الجديدة، وهل بقي من مُتسع للثقة الفلسطينية بدور أميركي في مسار عملية التسوية، أم أن الانهيار قد وقع، وأن جدار الثقة المتواضعة قد انهار مرة جديدة وجديدة ...؟

وبالاستخلاصات الأخيرة، ان مسار التسوية الفلسطيني الاسرائيلي سيبقى مُعطلاً تماماً مادامت سقوف الموقف الأميركي على ما هي عليه، في حدودها المعروفة، التي تُجيز للدولة العبرية الصهيونية فعل وعمل ما تشاء دون حسيب أو رقيب، بل وتعطيها الغطاء الكامل في المجتمع الدولي، وتَغُضُ النظر عن ممارساتها اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة تجاه الأرض والانسان الفلسطيني. أما دعوات السلام الاقتصادي فهي دعوات استخدامية استهلاكية، براقة لكنها خداعة، لاعلاقة لها بالواقع فأي سلام اقتصادي مادامت الأرض تنهب ومادامت السيادة الفلسطينية مقوضة على الأرض ومادامت بسطير جنود الاحتلال تدخل كل يوم لكل مكان داخل مناطق السلطة الفلسطينية المسماة بالمناطق( A) من خارطة بقع جلد النمر التي تم رسمها في اتفاق أوسلو الأول واشتقاقاته.

بقلم علي بدوان

صحيفة الوطن القطرية

الأربعاء 5/6/2013

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت