غزة بين انخفاض منسوب الرجولة وانخفاض منسوب الموازنة

بقلم: سامي الأخرس


الاستنكاف عن الكتابة يمنح جزء من الراحة المؤقتة المشوبة بأرق الضمير الوطني، أمام تلك المظالم المتتابعة والمتلاحقة ضد هذا الجزء الصغير من الوطن، وخاصة أنّ المتابع أو الملاحظ لجملة هذه المظالم يستدرك أنّ الجميع متفق على غزة وأهل غزة.
نبدأ من حالات القتل الّتي انتشرت في غزة في الأسابيع السابقة، وهي حالات أصبحت شبه يومية، بل شارفت على أنّ تتحول إلى شكّل اعتيادي مجتمعي، رغم تصريحات الحكومة المقالة بأن منسوب الأمن والأمان مرتفع جدًا في غزة وفق مقاييس الأمن لدى الأجهزة الأمنية فيما يتعلق بأمن الكيان السياسي، أيّ السلطة السياسية، ولكن حسب مقاييس الأمن المجتمعي فإن ارتفاع منسوب الجريمة يدلل على انهيار منظومة الأمن المجتمعي نتيجة ظروف ومتغيرات كبيرة وخطيرة، أهمها البطالة، الفقر، انهيار المنظومة التربوية الأخلاقية، وهو ما يجعلنا نُفسر المقولة الشهيرة لوزير الداخلية في الحكومة المقالة حوّل " انخفاض منسوب الرجولة" وهنا لا يمكن تخيل أنّ المقصود بها" انخفاض الخصوبة" لدى الرجال، لأن غزة تتكاثر بنسب مرتفعة عالميًا، ولكن هل يقصد بها "التخنيث" لدى رجال غزة؟ بالمفهوم الإصطلاحي العلمي، والذي بموجبه تنتشر الجريمة وتتراجع الشهامة، ولكن هذا الوصف لا يمكن له أنّ يكون هو بما أنّ النساء مارسن أيضًا الجريمة في خان يونس، وبما أنّ أبشع ظاهرة تمارس وهي" التسول" تمارسها النساء. فغزة يمكن لنا أنّ نطلق عليها سوق " تسول" وبشكل علني في الميادين والأسواق، وكأن هذه الظاهرة تحولت لمهنة مرخصة للنساء فقط وبشكل غير رسمي، وبكل الأعمار.
إذن مع انخفاض منسوب الرجولة الذي أعلن عنه وزير الداخلية في الحكومة المقالة فتحي حماد ارتفع منسوب الجريمة، وعليه لا بد من إيجاد لقاح لرفع منسوب الرجولة، وخفض منسوب الجريمة، هذا اللقاح لا بد أن يحتوي على عقاقير كيميائية فاعلة مثل" العدالة، الحريات، محاربة الفساد، تحجيم العنف" إن امتزجت هذه العقاقير في معمل الحكومة وتمّ تلقيح أهل أو رجال غزة بها، حتمًا فإن منسوب الرجولة سيعود لمؤشراته ونسبته الّتي عرفها العالم عن غزة ورجالها الذين أرغموا الاحتلال على الهروب من شوارع المخيمات في السبعينيات من القرن الماضي وانتشار ظاهرة" جيفارا غزة"، وكذلك فجروا انتفاضة الحجارة عام 1987 في العقد الثامن من القرن الماضي، وكتب " حاتم السيسي" شهادة ميلاد أعظم انتفاضة أطفال في التاريخ، كذلك عقد التسعينيات الذي أنتج مهاجمة العدو في الشوارع ورسمها الشهيد" عماد عقل"، وهي غزة الّتي حطم بها " أمين أبو حطب" أسطورة حصانة معسكرات الاحتلال العسكرية، وكذلك غزة التي أسرت الجندي الإسرائيلي" شاليط" في العقد الأول من القرن الحالي، وغزة الّتي حررت بسواعد أبنائها ورجالها كرامتها، وغزة التي تحدت العدو عامي 2008،2012، الآلة الصهيونية وصمدت ولم تنكسر، وأخيرًا نسأل هل رجال غزة منخفضو الرجولة؟
أما حكومتنا في رام الله فهي أصبحت وخاصة وزارة المالية شغلها الشاغل خفض منسوب موازنتها على حساب غزة ورجالها وأهلها، ففاتورة الموازنة لا تخفض سوى بموظفي غزة، وقوت أبنائهم، فتارة تقوم وزارة المالية بأخذ مكان شركتي الاتصالات والكهرباء وجباية فاتورة الكهرباء عن الشركة بحسم مبلغ (170 سيقل)، وتارة أخرى تحسم أكثر من (500ش) لنفس السبب، وتارة تقطع رواتب الموظفين نتيجة تقارير كيدية، وأخرى تقوم بارتكاب مذبحة بل وأكبر مذبحة بالتاريخ بتجميد رواتب(7000) موظف بحجة التوكيلات، وبحجة خروجهم من غزة، ولا زالت تمارس طقوس الإذلال الوظيفي بحق هؤلاء منذ ثلاثة أشهر، وتارة تجمد نشرات الترقيات عن موظفي غزة، وتميز بين موظفي الضفة الغربية وموظفي غزة، وأخرى تماطل بغلاء المعيشه والعلاوة السنوية بين عسكري ومدني، وكلَّ شغلها الشاغل أصبحت غزة وموظفيها. وتُرجع أزمة فاتورتها المالية إلى غزة وأهلها، وكأن غزة كيان معادي يجب التخلص منه إذلالًا، في حين لم تفكر وزارة المالية بالفساد الذي يأكل الأخضر واليابس في مؤسسات السلطة وأجهزتها، ولم تفكر في آلاف الدولارات التي تصرف نثريات وبدل سفريات، ومرافقين، ومساعدات ومكافآت ...إلخ.
ولكن يبدو أن هذه الأموال تخرج من الثقب الأسود ولا ينظر له، أما غزة فينظر لها بعين ونصف لأنها تخفض منسوب الموازنة وتزيد الأزمة المالية، وكأن مصير غزة ارتبط بتخفيض المنسوب الذي اصبح متفق عليه، تارة منسوب رجولتها منخفض، وأخرى منسوب حقوقها المالية على سلطتها منخفض.
ورغم كلَّ ذلك لا زالت غزة تعض على جراحها، ولا زالت غزة تؤكد أن مظالمها هي ممرها نحو إعادة اللحمة للوطن، وإعادة قضيتنا الوطنية لمنسوبها الطبيعي لمن خفض منه. والعجب العجاب أن من يتهموا غزة وشبابها بانخفاض منسوب رجولتها من جهة، وأنها سبب بأزمة الموازنة المالية هم أنفسهم من خفضوا منسوب قضيتنا الوطنية لأسفل درجاته، وحولوه لأدني مقاييسه على سلم أولويات العالم.
د. سامي الأخرس

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت