حكاية الأسـرى منذ " الهزيمة "..!!

بقلم: عبد الناصر فروانة


الخامس من حزيران عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين يوم أسود في تاريخ الأمة العربية ، يوم أن بدأت فيه " اسرائيل " بشن هجومها العسكري ضد الجيوش العربية وخاصة مصر والأردن وسوريا ، وبعد ستة أيام فقط انتهت الحرب بانتصار إسرائيل ، وهزيمة مذلة للجيوش العربية وصفت بالنكسة ، ونتج عن ذلك احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وبذلك أحكمت سيطرتها وأكملت احتلالها لفلسطين التاريخية ومقدساتها ، بالإضافة لإحتلالها لشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية .

فيما لا تزال سلطات الاحتلال تحتجز في سجونها ومعتقلاتها قرابة خمسة آلاف أسير فلسطيني بينهم ( 81 ) مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاما .

كما ويوجد من بين الأسرى ( 246 ) طفلا لم تتجاوز أعمارهم الثامنة عشر و( 162 ) معتقلا إداريا دون تهمة أو محاكمة ، و ( 12 ) نائباً بالإضافة إلى وزيرين سابقين.

ومنذ " الهزيمة " استشهد داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي ( 204 ) أسيراً نتيجة الإهمال الطبي والتعذيب والقتل العمد بعد الاعتقال مباشرة أو الإصابة بأعيرة نارية وهم في السجن.

هذا بالإضافة لمئات من الأسرى استشهدوا بعد تحررهم مباشرة أو بعد فترة من الزمن متأثرين بأمراض ورثوها عن السجون .

ستة وأربعون عاماً مضت لم يطرأ خلالها أي تحسن جوهري على طبيعة السجون وظروفها ، أو طبيعة معاملة السجانين للأسرى والمعتقلين وفق ما تنص عليه كافة المواثيق الدولية وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة الأسرى أو تلك الخاصة بمعاملة الأشخاص المدنيين وقت الحرب .

بل وعلى العكس كلما بني سجن جديد تجده أكثر قسوة من سابقيه ، ومع مرور السنين تتصاعد الهجمة الشرسة ضد الأسرى لتطال حياتهم الخاصة و تمس بكرامة وشرف الأسير وأهله .

ستة وأربعون عاماً مضت ، والاعتقالات لا تزال مستمرة ، والانتهاكات متواصلة والمعاناة تتفاقم والأرقام تتزايد ، والقضية تكبر وتتسع ، والتجارب تتراكم وأصوات لخفقات قلوب أدماها الحرمان والقهر تتعالى .

ستة وأربعون عاماً مضت تعمدت خلالها " إسرائيل " بمعاقبة ذوي الأسرى و الشهداء ، فاعتقلت أمهاتهم وزوجاتهم وهدمت بيوت عائلاتهم ، وعاقبت الإنسان بعد موته فاحتجزت ولا تزال تحتجز المئات من جثامين الشهداء في " مقابر الأرقام " ، وحرمت ذويهم من إكرامهم ودفنهم وفقاً للشريعة الإسلامية.

ستة وأربعون عاماً مضت ، لم ينجح خلالها الشعب الفلسطيني بمؤسساته المختلفة وفصائله المتعددة في امتلاك سجلٍ كاملٍ لمجمل حالات الاعتقال ، أو سجلٍ دقيقٍ لشهداء الحركة الوطنية الأسيرة .

كما ولم ينجز خلالها توثيق شامل لتاريخ الحركة الأسيرة ، و لم يسع الى إنشاء موقع ألكتروني موحد وبلغات عدة يشكل مرجعا لكل المهتمين والمتابعين .

ستة وأربعون عاماً مضت خاض خلالها الأسرى العديد من الخطوات النضالية ومعارك الأمعاء الخاوية " الإضرابات عن الطعام " الجماعية أو الفردية ، الاحتجاجية والتكتيكية أو الإستراتيجية ، على قاعدة أن الحق يُنتزع ولا يوهب ، ونجحوا من خلالها بالفعل في انتزاع العديد من الحقوق الأساسية التي ساهمت في تحسين أوضاعهم المعيشية ، وقدموا في هذا السياق تضحيات جسام وشهداء كثر .

ومنذ الهزيمة عام 1967 ، ناضل الأسرى وضحوا وأفنوا زهرات شبابهم في غياهب السجون من أجل وطن واحد لشعب واحد ، ومجتمع يسوده المحبة والتسامح والتكافل الاجتماعي والوحدة الوطنية ، ( لا ) من أجل وطن مقسم ونسيج اجتماعي مفكك وممزق ، ووطن محتل يتشاجر فيه الإخوة ويتقاتل فيه المقاتلون !!

واليوم يحلمون بتحقيق المصالحة وطي صفحة " الانقسام " البغيض وترسيخ الوحدة الوطنية المفقودة .

ستة وأربعون عاما مضت على " الهزيمة " ، ولم ولن يُهزم الشعب الفلسطيني المستمر في نضاله المشروع من أجل تحقيق السلام العادل والشامل الذي يبدأ بإنهاء الاحتلال وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وإطلاق سراح كافة الأسرى.

ومنذ ذلك التاريخ الأسود ارتكبت ـ ولا زالت ـ قوات الإحتلال الإسرائيلي الفظائع والجرائم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل ولم تستثنِ أحداً منه ، ومارست بحق هؤلاء أبشع ما يمكن أن يتخيله العقل البشري من إبادة وقتل جماعي وقتل بدم بارد واعاقات مستديمة ، وتشريد وقهر ، وظلم واضطهاد ، اعتقالات وتعذيب ، تهجير وهدم بيوت وابتلاع آلاف الدونمات وأخرى مُسحت أو أتلفت ما عليها من زرع وشجر .

والمواطن الفلسطيني أصبح ينام و يصحو على مشاهد الموت والدمار ، ويقضي جزءاً من يومه في تشييع جنازات الشهداء أو متنقلا بين المستشفيات والعيادات الصحية ، وجزءاً آخراً في التنقل بحثاً عن لقمة العيش الأساسية له ولأطفاله ، وجزءاً لا بأس به على مئات الحواجز المميتة والمذلة التي أُقيمت لتقطِّيع أوصال الوطن.. هذا هو الحال المؤلم البائس المرير للشعب الفلسطيني .

ومن رحم المعاناة وكرد طبيعي على الهزيمة النكراء وعلى الإحتلال وممارساته ، نشأت حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية ومن ثم حركات إسلامية مقاومة، وهذه المقاومة تجيزها وتشرعها كافة القوانين والأعراف الدولية، بهدف مقاومة الإحتلال وتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة ، وحظيت فصائل المقاومة بالتفاف ودعم جماهيري ، فاتسعت رقعتها وتصاعدت عملياتها ، واستطاعت أن تلحق بالعدو الإسرائيلي خسائر بشرية ومادية فادحة .

وفي محاولة يائسة لقمع هذه الظاهرة ولجعل الجماهير الفلسطينية تنفر منها وتبتعد عنها ، لجأ الإحتلال بالإضافة لممارساته الدموية الأخرى إلى إقامة سلسلة من السجون ورثها عن الانتداب البريطاني والحكم الأردني بعد حرب حزيران وتم توسيعها عام 1970م وبظروف أكثر قسوة ، ولجأ إلى اعتقال العديد من المواطنين و الشخصيات الوطنية ، وكل من يشتبه بأن لهم علاقة بالمقاومة من قريب أو من بعيد .

وفي وقت لاحق بنى الإحتلال الإسرائيلي عدداً من السجون والمعتقلات بمواصفاته الخاصة الأكثر قمعية والأشد قسوة وحراسة ، كسجن بئر السبع ونفحة الصحراوي ومعتقل أنصار3 في النقب وسجني جلبوع و ريمون حتى وصل عدد تلك السجون والمعتقلات إلى ما يقارب من ثلاثين سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف ، بعضها أغلق وبعضها الآخر لا تزال تضم بين جدرانها آلاف الأسرى .

ومنذ " هزيمة " أو " نكسة " حزيران عام سبعة وستين ولغاية اليوم ، أي بعد مرور ستة وأربعين عاماً لا تزال الاعتقالات مستمرة ولم تتوقف ، لكن خطها البياني سار بشكل متعرج ، فيماَ لم تقتصر على فئة أو شريحة محددة ، فاستهدفت كل ما هو فلسطيني بدءاً من الطفل ذو الثانية عشر من عمره و الفتاة والطالب مروراً بالشاب والعامل والأكاديمي والطبيب والأم ، وصولاً بالشيخ العجوز والنائب والوزير ، وليس انتهاءاً بالمعاق جسدياً ونفسياً و مرضى القلب والسرطان .. !!

وبالرغم من كل ذلك لم ولن تساهم تلك الإجراءات في تحقيق أهداف الاحتلال المرجوة من وراء الاعتقالات والمتمثلة في القضاء على وطنية الأسرى وثوريتهم ، وتحويلهم إلى عالة على ذويهم وشعبهم .

فالشعب الفلسطيني لم يخيفه الاعتقال والتعذيب ، وولا كثرة السجون ، وعشرات الآلاف من الفلسطينيين اعتقلوا عدة مرات مما يدلل على صحة ما نقول .

ستة وأربعون عاماً مضت سُجل خلالها أكثر من ثماني مائة ألف حالة اعتقال لمواطنين فلسطينيين بالإضافة لآلاف المواطنين العرب ، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والفتيات والنساء .

عبد الناصر فروانة

أسير سابق ، ومختص في شؤون الأسرى

مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية

عضو اللجنة المكلفة بمتابعة شؤون الوزارة بقطاع غزة

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت