يعتبر القضاء روح العدالة وعقلها وقلبها النابض، فإذا صلح حال هذا القضاء صلح حال المواطنين وخاصة الفقراء والفئات المهمشة من حيث تمتعهم بحقوقهم وأمنهم وأمانهم وكرامتهم، والعكس بطبيعة الحال صحيح.
قد لا يختلف اثنان على أهمية وضرورة استقلال القضاء حتى يكون روحا وعقلا وقلبا نابضا للعدالة، الأمر الذي أكد عليه القانون الاساسى المعدل لسنة 2003 في المادتين 97 و98 حين أوضح بشكل لا يقبل التأويل على أن "السلطة القضائية مستقلة وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وان القضاة مستقلون و لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، و لا يجوز لاى سلطة التدخل في القضاء أو في شئون العدالة، وان القضاة غير قابلين للعزل وان قانون السلطة القضائية يحدد كيفية تعيين القضاة ونقلهم وانتدابهم وترقيتهم ومساءلتهم"، كما أكد عليه قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2002 في المادتين 1 و 2 حين أشار إلى "استقلال السلطة القضائية ، واستقلالية القضاة".
نعم كبيرة لاستقلال القضاء والقضاة، إذ لا يعقل أن تقوم للعدالة قائمة إذا خضع القضاء والقضاة لتأثيرات وضغوطات من قبل جهات ذات نفوذ وسلطان ، كما لا يعقل أن يشكل القضاء ملاذا حقيقيا للضعفاء والمضطهدين والمظلومين إذا غابت عنه شمس الاستقلال نصوصا وتطبيقا بسبب طغيان السلطة التنفيذية بكافة أدواتها بما فيها وزارة العدل عليه ، كما لا يعقل أن يتمتع المواطنون بحقوقهم وحرياتهم وكرامتهم إذا تدخل أصحاب النفوذ بكافة مسمياتهم في عمل القضاء والقضاة. نعم لا يمكن أن تقوم للعدالة قائمة إذا جاء تعيين القضاة على قاعدة تقريب الثقات (الموالاة لجهة سياسية أو حزبية أو دينية، ... الخ) وتغييب الكفاءات (على قاعدة المفاضلة العلمية والكفاءة والاقتدار القانوني، وسعة الاطلاع القانونية، والأمانة والنزاهة والشفافية وحسن الخلق ... الخ)، فتعيين القاضي في ضوء منطق الثقات يعنى تبعية هذا القاضي لهذه الجهة أو تلك، ومن ثم الحد من استقلاليته وحياده .... الخ.
نعم كبيرة لاستقلال القضاء مالا وقرارا وإدارة عملا بمبدأ الفصل بين السلطات وقاعدة الحكم الرشيد، نعم لموازنة مستقلة للسلطة القضائية عن موازنة السلطة التنفيذية على قاعدة الاكتفاء الذاتي مما يتحصل من رسوم دعاوى وإيرادات صناديق المحاكم بما يضمن تحسين وتطوير مستوى أداء القضاء وموظفي المحاكم وتحسين أوضاعهم المعيشية بما ينعكس إيجابا على هيبة ونزاهة القضاء وعدالته، نعم لاستقلال القضاء قرارا وإدارة دون اى تدخلات أو إملاءات من أي جهة ذات نفوذ أو سلطان سواء أكانت حكومية أو حزبية أو دينية، أو .... الخ، فهذا بكل تأكيد يعزز نزاهة وشفافية وحيادية وتطور وإبداع القضاء والقضاة، بما ينعكس إيجابا على أداء القضاء من جانب، ويزيد من ثقة المواطنين فيه من جانب آخر.
باختصار شديد، فان استقلال القضاء يشكل مرتكزا لسيادة القانون بمعنى ان يخضع الجميع دون استثناء لأحكام القانون لا فرق بين حاكم ومحكوم، غنى وفقير، كبير وصغير، ذكر وأنثى، ابن تنظيم ومواطن، كما يعنى مدماكا أساسيا لقضاء عادل ونزيه يواجه كل أشكال وأصناف و ألوان الظلم والظالمين، ويحارب الفساد والمفسدين، وينتصر لأصحاب الحقوق الضعفاء والفقراء المظلومين والمضطهدين.
هذا وان كنت هنا في هذه العجالة لست بصدد الحديث عن واقع استقلال القضاء وواقع أدائه ومستوى ثقة الناس فيه، الأمر الذي تطرقت إليه العديد من الدراسات والأبحاث، فان خلاصة النتائج تشير إلى وجود ثغرات وفجوات ونقاط ضعف تحد من قدرة السلطة القضائية على تحقيق العدالة المنشودة وتقلل من ثقة المواطنين بها. وفى هذا السياق، وان كنت اعتقد بأن هناك العديد من العوامل لوجود هذه الثغرات والفجوات ونقاط الضعف في أداء السلطة القضائية، فاننى أرى أن العامل الرئيس لهذه الفجوات والثغرات يتمثل في غياب الرقابة على أدائها أو محدوديته أو عدم فعاليته، والذي لربما يظن البعض، مع شديد الأسف، انه يتناقض مع مبدأ استقلال القضاء، وخصوصا أولئك البعض الذين يرون أن الرقابة (التفتيش القضائي الداخلي والرقابة الخارجية المتمثلة في مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والمواطنين) على القضاء يعتبر مساسا خطيرا باستقلالية السلطة القضائية وتناقضا كبيرا مع القاعدة التي تقول "أن لا سلطان على القاضي إلا لما يمليه عليه القانون وضميره ووجدانه".
وأنا أؤكد أولا وثانيا وثالثا .... ومليونا على أهمية وضرورة استقلال القضاء والقضاة، فاننى أؤكد بالمقابل على أهمية الرقابة على السلطة القضائية، ولكنني هنا لا اقصد بالمطلق تلك الرقابة المجنونة، أو الغبية، أو الكفيفية، أو فاقدة البوصلة، أو الحاقدة، أو الكارهة، أو التسلطية، أو التصيدية، أو الاتهامية، أو التشويهية، أو التقزيمية، أو السوداوية، أو الظلامية .... الخ، فهذه، من وجهة نظري، رقابة تخريبية وتدميرية تمس بكل تأكيد باستقلال السلطة القضائية، بل اقصد تلك الرقابة المؤمنة بمبدأ استقلال القضاء والقضاة والعاملة من اجل تعزيزه، رقابة مرتكزة على منهجية علمية، رقابة مخططة، وهادفة، مبصرة، وفاهمة، وواعية، رقابة تسعى إلى وضع السلطة القضائية فوق كل الشبهات، رقابة يخضع الجميع أمامها للمساءلة والمحاسبة، رقابة تعزز الايجابيات دون تهويل وتسلط الضوء على نقاط الضعف دون تقزيم، رقابة تسعى للنصح والتوجيه والإرشاد، رقابة تضع الحلول لتصويب المسار وردم الفجوات والثغرات قبل فوات الأوان، رقابة تضع المقترحات والتوصيات لتحسين وتطوير الأداء في ضوء الاحتياجات والمستجدات، رقابة تضع على رأس أولوياتها سيادة العدالة واحترام وحماية حقوق المواطنين وكرامتهم وخصوصا الفقراء والضعفاء والمضطهدين والمظلومين منهم، و بالتالي زيادة ثقة الناس بالسلطة القضائية.
بقلم: د. يوسف صافى
مدير مركز هدف لحقوق الإنسان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت