ذكرى معجزة الإسراء والمعراج واحتلال باقي فلسطين

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
ذكرى معجزة الإسراء والمعراج واحتلال باقي فلسطين

تتزامن هذا العام ذكرى الإسراء والمعراج مع ذكرى النكسة التي أوقعت باقي القدس وفلسطين في قبضة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم عام 67 ، جاءت هذه الذكرى لتنغص على الأمة احتفالها بذكرى رحلة الإسراء والمعراج :
* هذه الرحلة الخارقة المعجزة التي كشفت لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حُجُبَ الزمان وطوت له حواجز المكان بإرادة الله .
* الرحلة التي ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وتشمل آمادًا وآفاقاً أوسع من حدود الزمان والمكان ، في لحظات لا تخضع لحسابات الزمان والمكان .
* الرحلة الربانية التي ربطت بين مقدسات الإسلام بجميع وقائعها ودقائق تفاصيلها ، فقد كان مبتدؤها البيت العتيق في مكة المكرمة ؛ ومحورها المسجد الأقصى المبارك قلب هذه الأرض التي باركها الله تعالى الذي قال { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء1 .
* الرحلة التي ربطت بين الرسالات السماوية جميعاً ؛ من خلال إمامته صلى الله عليه وسلم بسائر الأنبياء والمرسلين ، وربطت أمته بهم وبرسالاتهم وبمن تبعهم ، وأعلنت ميراث هذا الدين لسائر الأديان السماوية .
* رحلة التسرية والتسلية له صلى الله عليه وسلم جاوز منتهاها سدرة المنتهى ، تواصل ارتقاؤه في السماوات العلا حتى وصل إلى حيث لا يصل أحد ، توقف الأنبياء والملائكة ، ومضى هو إلى لقاء مالك الملك ذي الجلال والإكرام ، لينال الشرف والسمو والعلاء ، ويضفيه على أمته لتكون بحق أمة الخيرية والوسطية والشهادة ، فكأن الله عز وجل يقول له : إذا كان قد أعرض عنك أهل الأرض فأقبل على أهل السماء ، قال صلى الله عليه وسلم { أُتِيتُ بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط به الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة ؛ ثم عرج بنا إلى السماء } رواه مسلم
وما بين الرحلتين معبر مطهر وممر مبارك ، إنه بيت المقدس والمسجد الأقصى المبارك ، ربطه الله عز وجل ببيته المحرم ربطاً عقائدياً مصيرياً في إشارة إلى مكانته في الإسلام ، وفي دلالة على تحذير المسلمين أن يذروه ينظر ويألم أو ينتظر ويتألم ، وفي توجيه لهم إلى أن ضياعه ضياع للمسجد الحرام ؛ بل لمقدسات الإسلام جميعاً ، وفي لفتٍ لأنظارهم إلى هذه البقعة المباركة لتظلَّ متجهةً إليه ، ولتتعلق أرواحهم به وتهوي قلوبهم إليه ، فقد فرض الله سبحانه الصلاة على عباده في تلك الليلة ، وجعل بيت المقدس ومسجدها المبارك قبلتهم فيها لستة عشر شهراً أو يزيد .
وهذا ما كان من الأمة في كل مراحلها التاريخية ، فكلما كان المسجد الأقصى المبارك يتعرض للاحتلال أو الغزو كانت الأمة تتحرك لإنقاذه والدفاع عنه ، أما اليوم فإن المخاطر الحقيقية تحدق بالمسجد الأسير ، ويدنسه من لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ولا يراعون حرمة لدين أو مقدسات ؛ على مرأى ومسمع من الأمة التي أصابها الوهن فلا تحرك ساكناً ؛ ولا تملك إلا عقد الندوات والمحاضرات والتغني بأمجاد الماضي والتباكي على مآسي وكوارث الحاضر ، مما أتاح للمعتدي الغاشم مزيداً من فرص التعدي والتمادي في جرائمه الكبرى التي يرتكبها ضد المسجد الأقصى المبارك وأرض الإسراء والمعراج وأهلها العزل المرابطين فيها ؛ الموقنين بنصر الله تعالى لهم ؛ الذين يحتفلون بأسلوبهم الخاص ؛ ليس باتخاذ هذه الذكرى عيداً تعطل فيه الدوائر والمؤسسات والمدارس فحسب ؛ ولا بتبادل التهاني فيما بينهم ؛ بل بالثبات والمصابرة والمرابطة في أرضهم ؛ نيابة عمن تخلّوْا عن واجبهم ومسؤولياتهم تجاه أرض الإسراء من أمتهم الغائبة .
فقد أيقن أهل هذه الأرض المباركة أن معجزة الإسراء والمعراج جعلت مدينة القدس العاصمة الدينية الثالثة في الإسلام ، وأنها غدت ملكاً للمسلمين جميعاً ، ورتبت عليهم واجبات ومسؤوليات عظيمة لا يجوز التقاعس عنها ، فالتفريط فيها تصفية للتاريخ الإسلامي واغتيال لكل البطولات الرائعة التي سجلها المسلمون قادة وجنداً في صفحات المجد من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا ؛ فهي الأرض المقدسة التي طهرها الله تعالى من الشرك وجعلها قراراً للأنبياء والمؤمنين ومعقلاً للمسلمين من الدجال في آخر الزمان ، قال صلى الله عليه وسلم { يا معاذ إن الله سيفتح عليكم الشام من بعدي من العريش إلى الفرات رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة فمن اتخذ ساحلاً من سواحل الشام أو ببيت المقدس فهو في جهاد إلى يوم القيامة } .
كانت رحلة الإسراء التحريرَ والفتحَ الأول لأرض فلسطين المباركة ؛ أرض النبوات ومهبط الرسالات ومهد الحضارات ؛ وأصبح لها أهمية عظيمة عند المسلمين في دينهم وعقيدتهم ؛ ولهذا حرصوا على حمايتها وصيانة مقدساتها والسيادة عليها لضمان حرية العبادة فيها ؛ ففي جميع مراحل التاريخ ما وقعت يوماً في الأسر إلا سارعوا إلى الدفاع عنها ؛ وإنقاذها وتحريرها من أيدي المحتلين ؛ وفي كل مرة كان الله سبحانه يؤيدهم بنصره ويمكنهم من دحر الغزاة عنها .
أما الفتح الثاني لها فكان في السنة الخامسة عشرة للهجرة ؛ حيث تسلمها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه من بطرقها صفرونيوس ؛ وأمَّن أهلها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم في عهدٍ لم يُنْقَض إلى اليوم ؛ ويمثل أساساً للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين في هذه الأرض المباركة .
ثم توالى الفتح والتحرير لها ، فقد حررها صلاح الدين الأيوبي في ذكرى الإسراء والمعراج عام 583 للهجرة من احتلال الفرنجة لها بعد موقعة حطين وأعادها إلى السلطة الإسلامية بعد احتلال دام أكثر من ثمانين سنة . وفي رمضان عام 658 للهجرة كانت معركة عين جالوت بقيادة المظفر قطز شاهداً آخر على قيام الأمة بفريضة تحرير بيت المقدس وتخليصها من براثن الغاصبين ، فقد تصدى كل من الظاهر بيبرس والمظفر قطز للغزو الوحشي التتري الذي اجتاح العالم الإسلامي حتى انهزموا شر هزيمة ؛ وتم تحريرها نهائياً على يد الأشرف خليل بن قلاوون .
إننا نوقن بأن الله سبحانه وتعالى سسيقيض للقدس من يحررها وينقذها من الأسر ، ونوقن بأن المحنة تؤذن بالقوة والنصر ، ونوقن بأن الثبات على هذه الأرض المباركة هو مرابطة في سبيل الله ؛ قال صلى الله عليه وسلم { لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك " قالوا يا رسول الله وأين هم ؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس } رواه أحمد .
فبهدف تهويد القدس تعمل سلطات الاحتلال الإسرائيلية على التهجير القسري للمقدسيين بإجراءاتها التعسفية من هدم بيوتهم ، وسحب هوياتهم ، وفرض الضرائب الباهظة عليهم ، ومنعهم توسيع منازلهم أو بناء غيرها ، ورفض منحهم رخصاً للبناء ، وعرقلة معاملات جمع الشمل ، ومصادرة أراضيهم لإقامة المستوطنات عليها وإحاطتها بجدار الفصل العنصري الذي عزلها عن محيطها الفلسطيني . وبهدف الهيمنة على المسجد الأقصى المبارك وتقسيمه تواصل الحفريات تحت أساساته وفي محيطه ، ويدعم ساستها وقضاتها الجماعات المتطرفة في اقتحامه ومحاولة الصلاة فيه كل ذلك بهدف تحويله إلى كنيس يهودي وبعد ذلك هدمه لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه .
إن هذا الخلل الذي تحدثه سلطات الاحتلال الغاشمة في مدينة القدس دليل واضح على أنها دولة استيطانية توسعية احتلالية إحلالية ؛ تهدف إلى فرض مزاعمهم الخرافية بأن فلسطين هي وطن لليهود .
لهذا فإننا نناشد كل من يتمكن من أبناء الأمة زيارة المدينة المقدسة وشد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للحضور الدائم فيها وتوثيق صلة الأمة بها ولدعم صمود أهلها ، وفي ذات الوقت نناشد أبناء شعبنا الفلسطيني في جميع مواقعهم وبالأخص المقدسيين وأبناء فلسطين المحتلة عام 48 أن يكثفوا حضورهم فيه للتصدي لمؤامراتهم وخططهم الخبيثة .
فلا بد للأمة أن تستذكر أن محور هذه الذكرى العظيمة ما زال بأيدي الغاصبين المحتلين ، وأن العدو جاثم على أرضه وعلى صدور أبنائه ، وأن عليها القيام بواجبها في تحريره وتطهيره من أرجاس الاحتلال .
إن المسجد الأقصى المبارك هو محور معجزه الإسراء والمعراج ، وهو بها المرجعية الأولي لقدسية مدينة القدس وعروبتها وإسلاميتها ، فحريٌّ بنا اليوم بعد أن خاب رجاؤنا من أمة يخيّم عليها صمت القبور أن نستلهم التأييد الرباني ؛ نستمد من الله العزيمة والصبر والثبات ، نتأسى بصاحب المعجزة ونتلمس خطاه ، نثبُتُ على الحق كما ثبت ، لا نبالي بالمحن والشدائد كما لم يبالِ ، نلجأ إلى مصدر القوة والنصر الذي لجأ إليه ، ونطلب منه ونتوكل عليه ونستجير به كما لجأ واستجار ، فبعد عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف ناجى ربه بقوله { اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ؛ يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي ؛ إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ؛ غير أن عافيتك هي أوسع لي ؛ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك ؛ لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله } رواه الطبراني ، فإن البلاء شديد ، والكيد متعاظم والخطر داهم ، والأعداء يتجمع فرقاؤهم ويتكتَّل أقوياؤهم ، ومع ذلك فإن أمر الله تعالى ماضٍ ووعده نافذٌ ، قال تعالى { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } يوسف 22 .

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي (سابقاً)

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت