انطلقت الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط الجديد من نظرية الفوضى الخلاقة لوزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس سنة 2006م. وتسير هذه الرؤية وفق رؤية الباحث الأمريكي برنارد لويس الذي يرى بضرورة تقسيم الشرق الأوسط في القرن الواحد وعشرين إلى كانتونات طائفية تزيد عن الثلاث والستين. وحيث أن هذه الرؤية تتجاوز الرؤية الوطنية والقومية التي شهدتها المنطقة منذ بداية القرن العشرين تساوقاً مع بروز فكرة القومية في أوروبا، وترسيخها خلال وبعد الثورة الفرنسية 1789م، وبالتالي يمكن أن يعتبر القرنين التاسع عشر والعشرين هي قرون القومية بامتياز، حيث شهدت هذه الفترة نهاية الإمبراطوريات، التي تضم قوميات وطوائف شتى، بحيث يكون الولاء فيها للأسرة الحاكمة. وبالتالي برز خلال القرن التاسع عشر فكرة الدولة الحديثة التي تقام على أسس قومية، وليس ولاء للأسرة الحاكمة. وقد عبر الفيلسوف هيغل عن ذلك بطرحة فكرة الدولة، وإيصالها لمرتبة القداسة. وبذلك شهدت الإمبراطوريات القائمة ثورات قومية عبرت عنها القوميات الأوروبية بثورات 1830م، وثورات 1848م، ثم بالوحدتين الإيطالية والألمانية 1870م.
وقد شهد المشرق العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ولادة فكرة القومية العربية كصدى لما حدث ويحدث في أوروبا، وبالتالي ولدت القوميتين التركية والعربية على قدم وساق. وعبرت الثانية عن نفسها بإحياء اللغة، وإقامة الجمعيات السرية وصولاً إلى الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين عام 1916م. وأمام بروز التيار القومي العربي، وشعور بريطانيا بالخطر على مصالحها المستقبلية تم توجيه ضربة قوية له من خلال اتفاقية سايكس بيكو في فبراير 1916م، حيث تم تقسيم المشرق العربي إلى مناطق عدة ستوضع تحت الحكم البريطاني والفرنسي لاحقاً ضمن نظم حكم مباشرة وغير مباشرة، وعبر عنه لاحقاً بفكرة الانتداب البريطاني والفرنسي في مؤتمر سان ريمو في إبريل 1920م. كما تم توجيه ضربة للقومية العربية من خلال تقسيم الوطن العربي إلى شرق وغرب، وغرس المشروع الصهيوني في المنتصف من خلال وعد بلفور الصادر في 2/11/1917م.
وبذلك شهد العالم العربي ولادة الدولة القطرية على أساس وطني. وتراجعت الفكرة القومية حتى تم احتوائها في مؤسسة رسمية هزيلة أطلق عليها جامعة الدول العربية. وبذلك تراجعت فكرة القومية بزخمها الشعبي إلى قومية عربية بشعارات رسمية من خلال كما قلنا جامعة الدول العربية. وقد حاول الرئيس المصري الجمع بين البعدين الشعبي والرسمي للقومية العربية، من خلال خطاباته وشعاراته، ثم وحدته مع سوريا 1958-1960م، ولكن هزيمة 1967م ضربت بعرض الحائط الرؤية الناصرية سواء كانت جدية أم شعاراتية. وبالتالي تراجع المد القومي كثيراً أم تكريس القطرية حتى تم توجيه الضربة القاضية للفكرة القومية في حرب الخليج سنة 1990م، من خلال غزو العراق للكويت ثم سنة 1991م من خلال دعم دول عربية للتحالف الدولي الأمريكي ضد العراق في يناير 1991م.
وأمام تراجع الإنجازات للتيارات الوطنية والقومية برز تيار الإسلام السياسي من خلال عدة حركات قدمت رؤى مختلفة وأهمها الحركة الأم _حركة الإخوان المسلمين_، وما انبثق عنها من حركات وأحزاب أخذت مسميات مختلفة. وقدمت هذه الحركات نفسها كبديل عن التيارات الوطنية والقومية وحتى الماركسية. وأمام إخفاق هذه التيارات في معالجة القضايا الوطنية والقومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية طرحت حركات الإسلام السياسي شعار "الإسلام هو الحل" دون تقديم برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تفصيلية. ولكن من خلال خلق مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة، وتركيز هذه المؤسسات على الفئات الشعبية التي لم تلق بالاً واهتماماً كافياً من المؤسسات الرسمية نجحت حركات الإسلام السياسي وخاصة حركات وأحزاب الإخوان المسلمين من استقطاب الكثير من فئات المجتمع بتقسيماتها المختلفة من مزارعين وعمال وتجار وبرجوازيين، فئات مثقفة وغير مثقفة. حيث التقى هؤلاء في معرضتهم الحكم القائم على أسس بوليسية وأسرية ونخبوية اقتصادية وعسكرية.
ويبدو أن حركات الإسلام السياسي بتنظيمها الهرمي الجيد، ومؤسساتها المجتمعية قد نجحت في المساهمة في ثورات الربيع العربي. ونجحت أيضاً في قطف ثمار تلك الثورات أمام تشرذم وتقليدية وهرم الأحزاب والحركات الأخرى العلمانية واليسارية. وبالتالي صد الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر، وتونس، وبمشاركة وحضور واضح في اليمن وليبيا، وبمشاركة واسعة في محاولة إسقاط النظام في سوريا، هذا إضافة إلى قيادة التحركات الشعبية المنادية بالإصلاح في المملكة الأردنية الهاشمية من خلال جبهة العمل الإسلامي. وقد سبق كل هذه التحركات فوز حركة حماس في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس في الانتخابات التشريعية في يناير 2006م، ثم سيطرتها على الحكم في قطاع غزة في يونيو 2007م.
وقد اكتسبت هذه الحركات شرعيتها في الحكم من خلال العملية الانتخابية التي تشكل عنصراً هاماً من عملية التغيير الديموقراطي. ولكن اكتساب هذه الحركات لشرعيتها المحلية في الحكم لا يعني أن الساحة الدولية سوف تكون مفتوحة أمامها. فحركة حماس قد فازت في عملية انتخابات ديموقراطية، ومع ذلك تم محاصرة الحركة إسرائيلياً ودولياً حتى تستجيب إلى أصول اللعبة السياسية الدولية التي تستحوذ عليها الرباعية الدولية على الصعيد الفلسطيني. وبذلك تم مطالبة حركة حماس بتلبية شروط الرباعية من أجل فتح الطريق لها لدخول المجتمع الدولي. وهكذا كان لابد لحركات الإسلام السياسي الصاعد من اكتساب الشرعية المحلية، واكتساب القبول والرضا الدولي الذي تقف على رأسه الولايات المتحدة الأمريكية.
وبذلك تقاطعت المصالح السياسية لحركات الإسلام السياسي مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. فالرؤية الأمريكية القائمة على تقسيم الشرق الأوسط الجديد إلى كنتونات طائفية لا يمكن أن تتحقق من خلال قوى علمانية وقومية ويسارية حيث أن هذه القوى لا تلقي بالاً للبعد الديني، وتعتبره شأناً شخصياً مثل القوى القومية والوطنية، فيما تراه القوى اليسارية أفيوناً للشعوب، وتكريساً للسلطوية الإقطاعية الاقتصادية، وتوظيفاً أيدلوجياً من قبل البرجوازية. وحيث أن القوى الإسلامية تعارض الهوية الوطنية والقومية، ويغالي بعض منظريها في اعتبارها كفراً وإلحاداً مما يعني السعي لضرب الهوية الوطنية والقومية سعياً وراء مشاريع إسلامية دينية تتجاوز البعد الوطني والقومي نحو دولة إسلامية، أو دولة الخلافة كما يراها حزب التحرير في أدبياته. وهذا يلتقي مع الرؤية الأمريكية القائمة على ضرب الدولة الوطنية القائمة لصالح كنتونات ودويلات طائفية. ولذلك نجد أن الولايات المتحدة لم تعارض وصول الإسلاميين إلى الحكم في مصر وتونس، بل تم مباركتها سياسياً من خلال اتصالات، وزيارات لمسؤولين أمريكيين مثل زيارة وزيرة الخارجية الأمريكية _هيلاري كلنتون_ لمصر. وهذا يعني أن وصول هذه الحركات إلى الحكم باعتبارها حركات دينية يخدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية من عدة جوانب. يتمثل الجانب الأول في دمج هذه الحركات في النظام السياسي المحلي والعالمي، وإخراجها من طور المعارض. وبالتالي يكون أمام هذه الحركات إما الاندماج في السياسة الدولية، وبالتالي اتباع سياسة تهادنية مع المجتمع الإقليمي والدولي، وخير مثال على ذلك احترام الحكم الإخواني في مصر لاتفاقيات كامب ديفيد التي كانت تلقى المعارضة من حركات الإسلام السياسي أثناء وجودها في المعارضة. وهذا يعني أن حركات الإسلام السياسي ولكي تندمج في المجتمع الإقليمي والدولي يجب أن تتعامل بواقعية وبراغماتية. وتتمثل هذه البراغماتية على الصعيد الدولي بمسايرة مصالح الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والتلائم مع سياستها في مناطق النفوذ. وهذا ما ذكره الناطق بلسان الرئاسة المصرية في مايو 2013 بأن علاقتنا بالولايات المتحدة هي علاقة استراتيجية. وهنا يأتي ضمن الواقعية التلاقي مع المشاريع المطروحة في المنطقة.
كما تسعى الولايات المتحدة من خلال مباركة صعود حركات الإسلام السياسي إلى تجنيد حركات الإسلام المعتدل ضد الحركات الإصولية الإسلامية المتطرفة (من وجهة النظر الأمريكية) مثل تنظيم القاعدة. وبالتالي تصبح حركات الإسلام السياسي وعلى رأسه حركة الإخوان المسلمين بمسمياتها المحلية المختلفة، والتي تعد حركة إسلامية معتدلة جزءاً من الحرب الدولية المعلنة على مجموعات الجهاد السلفي، ونجد ذلك واضحاً في سيناء مصر، وتونس، وحتى في قطاع غزة.
أما الخيار الثاني أمام حركات الإسلام السياسي فهي الصدام مع القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي تتعرض هذه الحركات للحصار والملاحقة، ووضعها على القائمة السوداء. وهذا ما نجده لدى تنظيم القاعدة الذي تلاقت مصالحه مع المصالح الأمريكية ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان. وبالتالي تلقت القاعدة دعم أنظمة إقليمية مثل الباكستان، ودول عربية مثل دول الخليج العربي. وبعد أن تناقضت المصالح بين القاعدة والولايات المتحدة بخروج الاتحاد السوفيتي تعرضت القاعدة للملاحقة كما هو سائد اليوم. كما أيضاً تتعرض حركة حماس للحصار السياسي الدولي، ووضعها في القائمة السوداء للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
ونحن هنا لا نطلق عبارات الاتهام بالتخوين والعمالة ولكن ما يعرف بالسياسة بتقاطع المصالح. والسير في فلك الاستعداد للتوظيف في خدمة مشروع ما من أجل البقاء في السلطة. وبالتالي يتم التساوق مع الرؤية الأمريكية وفق منطق فقه المصلحة. وتستطيع الحركات الإسلامية التلاعب بالدين وتوظيفه كما تشاء لأنها هي في جوهرها ووجودها تعتمد على توظيف الدين في خدمة السياسة، وبالتالي تنصيب نفسها ناطقة ومفسرة ومؤوله للدين كونها تعتبر نفسها تحتكر الفهم للنص الديني. وبالتالي يتبارى شيوخها وفقهائها وعلمائها لإصدار الفتاوى التي تعبر عن مصلحتها، وتسوق نفسها للجماهير. وهنا لابد من القول أن المشروع الأمريكي يعتمد اليوم على التقسيم الطائفي للشرق الأوسط الجديد من جهة، ومن جهة أخرى دفع المشروع الصهيوني إلى الخلف في أولوية الصراع العربي الإسلامي. وبالتالي يتقدم الصراع الطائفي على الصراع الصهيوني. وهذا يحتاج إلى حشد وتعبئة، وخير من يقوم بهذا الدور هو القوى الإسلامية باعتبارها الناطقة باسم الدين، وبالتالي هي من عينت نفسها حامياً وأميناً له وعليها الذود عنه ضد الأعداء. وهنا تلتقي المصالح الأمريكية ومصالح حركات الإسلام السياسي. ويتم توظيف حركة الإسلام السياسي خدمة للرؤية والمشروع الأمريكي مقابل إقرار هذه الحركات في الحكم والتعامل معها، ومنحها الشرعية الدولية. وقد يكون هذه التلاقي أو التوظيف تكتيكي أو استراتيجي تبعاً لاستمرارية المشروع الأمريكي.
ونجد هذا التعاطي واضحاً من خلال ما يشهده العالم العربي من حشد وتعبئة طائفية كبيرة سواء على الصعيد السياسي الرسمي أو على الصعيد الحزبي والشعبي. فهناك اصطفاف واضح من قبل نظام الحكم الرجعي الأميري في قطر وأنظمة المملكة العربية السعودية، والنظام السياسي الإخواني في مصر، وكذلك في ليبيا وتونس ضد النظام السوري الذي تم اكتشافه فجأة بأنه نظام علوي شيعي. وكذلك الحشد والتعبئة الرسمية التي تقوم بها دولة الإمارات العربية ضد حزب الله وسوريا وإيران. ووصل الأمر بوزير الخارجية البحريني إلى وصف الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله "بأنه إرهابي". وهذا الحشد والتعبئة الرسمية تسير في الفلك الأمريكي على اعتبار أن الأنظمة العربية تحتشد طائفياً على صعيد سني في مقابل المعسكر الشيعي، وتراجع خط المواجهة السياسية بين العرب وإسرائيل حيث تراجع العرب خطوة للوراء بالقبول بتعديل المبادرة العربية، والقبول بمبدأ تبادل الأراضي. وهنا يتم التساوق مع السياسة الأمريكية التي تحاول الآن مكافأة الأنظمة العربية القائمة ومن بينها أنظمة الربيع العربي من خلال إحياء المسار التفاوضي الفلسطيني الإسرائيلي عبر الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأمريكية جون كيري. ويبدو الاصطفاف الطائفي قوياً في مقابل تراجع الاصطفاف السياسي الرسمي الهزيل ضد المشروع الصهيوني الذي يضع نفسه في حالة اشتباك يومي لتهويد القدس، وتكثيف الاستيطان حيث ذكرت حركة السلام الآن الإسرائيلية التي ترصد النشاط الاستيطاني في القدس والضفة الغربية بان النشاط الاستيطاني قد بلغ ذروته في السنة الأخيرة.
وهنا يبدو التساوق والتوظيف واضحاً في حشد الولايات المتحدة للمعسكر السني في عزل ومواجهة المعسكر الشيعي الذي تتزعمه إيران. وبالتالي يكون العالم العربي بمعظمه جزء من الحرب القادمة على إيران. هذا إن لم يخض العرب السنة هذه المعركة بانفسهم بديلاً عن إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
وقد يرى البعض أن الاصطفاف السني الشيعي ليس وليد اللحظة بل يعود إلى الثورة الإيرانية عام 1979م، والحرب العراقية الإيرانية 1980-1988م. ولكن لو تأملنا قليلاً لوجدنا أن الاصطفاف الطائفي في ذلك الوقت لم يكن قوياً، وواضحاً للعيان وذلك لعدة أسباب أهمها: أن الحرب العراقية الإيرانية برزت كحرب سياسية حدودية يقودها النظام العراقي لاسترداد أراضيه، وأن من قاد هذه الحرب هي العراق بسلطتها الرسمية وبدعم من الأنظمة العربية، وبالتالي لم تأخذ هذه الحرب بعداً شعبياً في الوجدان العربي السني لأنها لم تبرز كحرب مذهبية سنية شيعية. وربما السبب الأكثر أهمية هو بعد حركات الإسلام السياسي عن الحكم في ذلك الوقت كونها من جماعات المعارضة للأنظمة السياسية القائمة في ذلك الوقت، ولم تدخل معترك الحرب الرسمية بين العراق وإيران، ومن هنا لم يتم توظيف البعد الديني في الصراع القائم آنذاك، بل يمكن القول أن حركات الإسلام السياسي كانت تبارك الثورة الإيرانية على اعتبار إنها تشكل نموذج يحتذى به في مقاومة نظام الحكم الرسمي والانتصار عليه، وإقامة الدولة الدينية التي تسعى إليها حركات الإسلام السياسي السني. ولذلك لاقت أقول الإمام الخميني وكتاباته، وكتابات على أكبر ولايتي وغيرهم من منظري الثورة الإيرانية القبول من منظري حركات الإسلام السياسي السني، وتم استلهام كثير من هذه الأفكار في تعزيز منطق وخطاب هذه الحركات ضد الأنظمة السياسية الحاكمة. وهذا يعزز ما ذكرناه سابقاً بان الحشد الديني الطائفي لا يمكن أن تقوم به الأنظمة العلمانية بل الأنظمة الديني التي توظف الدين في خدمة المصالح السياسية والخطاب السياسي.
ويتوازى مع الموقف الرسمي العربي في الحشد والتعبئة الطائفية أحزاب وحركات الإسلام السياسي ومنظريها ومفتيها. وهنا يبرز بشكل قوي الدور الذي يقوم به الشيخ يوسف القرضاوي –رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- الذي يقوم بدور شيخ الإسلام في العهود الإسلامية الكلاسيكية. حيث يتم توظيفه وتغطيته من قطر، وفتح باب قناة الجزيرة له في خدمة المشروع الطائفي الأمريكي. فالشيخ القرضاوي قد أفتى بأن "العلويين (النصيرية) هم أكفر من اليهود والنصارى". وقد دعى كل المسلمين حول العالم إلى التوجه نحو مدينة القصير السورية لمقاتلة حزب الله. مؤكداً "أنه كان ليذهب بنفسه لو كان فيه قوة". وهذا يبرز بشكل جلي كيف يتقدم الحشد والتعبئة الطائفية على التعبئة والحشد ضد المشروع الصهيوني. وبالتالي تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى فئتين متصارعتين هم السنة والشيعة الذين هم أشد كفراً من اليهود والنصارى من وجهة النظر القرضاوية. وبالتالي يجب أن يتراجع الحشد والتعبئة الدينية والسياسية ضد المشروع الصهيوني لصالح التعبئة والحشد ضد الشيعة. وضمن هجوم القرضاوي على النظام العلوي السوري هاجم القرضاوي حزب الله ووصفه بأنه " حزب الطاغوت، وحزب الشيطان، وأن نصر الله ( الأمين العام لحزب الله) هو نصر الشيطان". ويدعو القرضاوي إلى النفير العام السني ضد الشيعي السوري حيث قال: "أدعو المسلمين في كل مكان إلى نصرة إخوانهم". وهنا يلتقي منظر ثورات الربيع العربي الإسلامية (الديموقراطية !) مع فقهاء ومفتيي أكثر الأنظمة رجعية ضد شعوبها أي مفتتي المملكة العربية السعودية حيث شن إمام وخطيب المسجد النبوي في المدينة المنورة الشيخ صلاح البدر في الأول من يونيو 2013م هجوماً قاسياً على سوريا وحزب الله وقال عنهم إنهم "دجاجلة الممانعة والمقاومة ... وأنهم لن يفلحوا في تغيير التاريخ المحفوظ، أو تحسين الوجه القبيح لمذهب يستبيح قتل الأطفال والنساء والشيوخ، ويستبيح هدم بيوت المسلمين ومساجدهم ومدنهم". وأضاف أن "لا عداوة للسنة وأهلها أشد من عداوة من يتخذون الكذب ديناً، ويكفرون سادات الأولياء بعد الأنبياء، صحابة رسول الله". ويصل الحد في الهجوم إلى اعتبارهم سند العدو بالقول "إذا دعوا حمل لواء الممانعة والمقاومة ضد المحتل وما هم إلا مطية العدو وسنيته، وسنده وعدته، ومن يهاجم المحتل بالصياح والنباح، ويهاجم المسلمين بالنار والحصار والسلاح لا يمكن أن يكون للمحتل مقاوماً ولا للغازي ممانعاً، بل هو حربة المحتال ضد الإسلام والمسلمين". وهنا يبرز الحشد الطائفي قوياً في مقابل تراجع الحشد ضد العدو الصهيوني الذي لم يجد مثل هذه الفتاوى ضده من هؤلاء العلماء منذ زمن بعيد، حيث تبارى النظام الملكي السعودي على تقديم مشاريع السلام العربية منذ مشروع فاس السعودي في سبتمبر 1982م وحتى مبادرة السلام العربية في سنة 2002م.
ويبرز التناغم جلياً بين القرضاوي ومفتتي المملكة العربية السعودية في التصالح الذي حدث بينهما والغزل المتبادل على اعتبار أنهم يلتقون اليوم في مشروع واحد هو تحقيق الاصطفاف السني في مقابل الصف الشيعي تلاقياً مع المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة. حيث أشاد مفتي المملكة العربية السعودية_الشيخ عبد العزيز آل الشيخ_ يوم الخميس الموافق 6/6/2013م بموقف الشيخ القرضاوي ضد إيران وحزب الله. وقال: "إنه يشكر الأخير على تأييده ورجوعه إلى موقف كبار علماء المملكة الذي كان واضحاً من هذا الحزب الطائفي (حزب الله) المقيت منذ تأسيسه ... وأن موقف القرضاوي يُذكر بموقف كبار العلماء عبر التاريخ في رجوعهم إلى الحق متى استبانوا لموقف الرشد". وفي محاولة تحقيق حشد العلماء وتعبئتهم من أجل التعبئة الطائفية يقول الشيخ عبد العزيز " نحن نشد على يد فضيلة القرضاوي داعين علماء العالم الإسلامي كافة إلى التآزر والتعاضد في لحظة تاريخية حرجة للأمة الإسلامية تستدعي من الجميع صفاء القلوب والتعاون على يضمن لهذه الأمة وحدتها وقوتها". ويؤكد الشيخ عبد العزيز على ضرورة الحشد والتعبئة الطائفية بالقول: "ندعو الجميع ساسة وعلماء إلى أن يتخذوا من هذا الحزب الطائفي المقيت ومن يقف وراءه خطوات فعلية تردعه عن هذا عن هذا العدوان، فقد انكشف بما لا يدع مجالاً للشك أنه حزب عميل". ويصل الحشد الديني الطائفي مداه في قول الشيخ عبد العزيز "كلمة القرضاوي لعلماء المملكة بشأن موقفهم من حزب الله وما فعله بأهل سوريا تسجل له، لأن فيها توحيداً لموقف علماء أهل السنة والجماعة في السعودية، وفي أقطار المسلمين جميعاً مما يهدد عقيدتهم، وبقائهم في بلدانهم، ويهدد الأمن الديني لأهل السنة وعدم اختراق بلدانهم أو اختزالها".
ويتراجع القرضاوي بهذا عن مواقفه السابقة التي تدعو للحوار والتقريب بين المذاهب، ومشاركته في مؤتمرات ولقاءات بهذا الخصوص عقدت في طهران نفسها في عهد الرئيس السابق علي خاتمي. ويرى القرضاوي أنه كان مخطأ في ذلك. وقال القرضاوي في بيان له صدر في 9/6/2013م "إن الثورة السورية أجلت الحقيقة، وبينت حقيقة حزب الله وشيعته الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله". وأضاف: "وقفت ضد المشايخ الكبار في السعودية داعياً لنصرة حزب الله، لكن مشايخ السعودية كانوا أنضج مني وأبصر مني، لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم، هم كذبة". وأبدى القرضاوي أسفه لما قال "إنه وقت أنفقه في الدعوة للتقارب بين الشيعة والسنة ... وأنه اكتشف أنه لا أرضية مشتركة بين الجانبين لأن الإيرانيين خصوصاً المحافظين منهم". ووصل القرضاوي في حشده الطائفي إلى القسم "اقسم بالله أن الشعب سينتصر على حسن نصر الشيطان، وحزب الطاغوت وبشار الوحش، وسيقتلهم السوريون شر قتلة".
وتجدر الإشارة هنا أن الشيخ القرضاوي في تعزيزه للحشد السني ضد الصف الشيعي يتجاوز البعد العربي إلى البعد الإسلامي. فهو يدعم الصعود الإسلامي السياسي في تركيا ضد المعارضين، ويصطف بجانب رئيس الوزراء _رجب طيب أردوغان_ ضد معارضيه في المظاهرات التي يتم تنظيمها في اسطنبول والمدن التركية الأخرى ضد التغييرات العمرانية التي تجريها حكومة أردوغان في حي تقسيم في اسطنبول. فقد دعا القرضاوي في بيان صدر باسم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتاريخ 9/6/2013م الشعب التركي إلى "الالتفاف حول هذه الإنجازات العظيمة، والحفاظ عليها وعدم التفريط فيها ... وأن الحفاظ على إنجازات حكومة أردوغان مسؤولية الشعب التركي أمام الله ... والابتعاد عن الانسياق مع المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد تركيا لمواقفها المشرفة من قضايا أمتها الإسلامية... وأن تركيا تدفع ثمن مواقفها الجريئة". وهذا يبرز الدعم للدور والموقف التركي المصطف سنياً مع الموقف العربي الرسمي والشعبي ضد المعسكر الشيعي.
وهنا تبرز حقيقة الحشد الطائفي الذي تقوم به حركات الإسلام السياسي وعلمائها وعلى رأسهم القرضاوي الذي ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين لأن العلماء هم الأقدر على الحشد والتعبئة الدينية الطائفية من مفكري ومثقفي القوى العلمانية والقومية. وبالتالي يتناغم صعود تيار الإسلام السياسي إلى سدة الحكم مع المشروع الأمريكي في المنطقة. وقد برز دور العلماء جلياً في المؤتمر الذي تم عقده في القاهرة بتاريخ 12/6/2013م تحت مسمى مؤتمر المجلس الإسلامي العالمي. والذي نص بيانه الختامي على تأجيج الصراع السني الشيعي في سوريا.
ونحن هنا قد تناولنا الحشد السني الذي يتوازى مع الحشد الشيعي الذي يدفع أيضاً من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بصورة أو بأخرى. حيث يبدو جلياً أيضاً وقوع المعسكر الشيعي في الفخ الأمريكي. حيث أن دخول حزب الله إلى القصير وحربه المباشرة مع النظام السوري ضد المعارضة السورية تحت غطاء محاربة التكفيرين في سوريا قبل وصولهم إلى لبنان، وكذلك حماية مقام السيدة زينب والمقامات الشيعية الأخرى في سوريا، وصولاً للخطاب المعلن عن تحويل القصير إلى مدينة شيعية، كل ذلك يعزز من الاصطفاف الطائفي السني الشيعي في لبنان أيضاً، وينذر بحرب أهلية جديدة. ولذلك فإن حركات الإسلام السياسي سواء أكانت شيعية أو سنة هي من تقوم بالحشد الطائفي وصولاً للصراع الطائفي في العالم العربي والشرق الأوسط والذي ينذر بالقضاء على الأخضر واليابس. ويعود بنا إلى الحروب البابوية الكهنوتية في العصور الوسطى في أوروبا. وهذا يعني أن حركات الإسلام السياسي بأنواعها تحاول قيادتنا إلى الوراء.
ما تناولناه يتطلب منا مراجعة نقدية على مستوى الخطاب والأداء، وعدم ترك الساحة للمتشددين في حركات الإسلام السياسي التي يتم توظيفهم في مشاريع اصطفاف طائفية سنية شيعية، وأن علينا تعزيز مفاهيم الدولة المدنية وليس الدينية، حيث يتم التعامل على قدم المساواة بين الجميع كمواطنين متساوين أمام القانون، بعيداً عن التقسيم الديني الطائفي. فالدين لله والوطن للجميع. وهذا يتطلب من حركات الإسلام السياسي بأنظمتها ومنظريها من فقهاء ومفتين بعدم الانجرار وراء المشاريع الأمريكية والصهيونية التي يتم إعدادها للمنطقة. فنحن ندرك مدى خطورة الأزمات التي تعاني منها المنطقة العربية، وأن الأزمات تواكبها حالات حشد واصطفاف ولكن المهم أن ندرك كيف نعالج الأزمات بروية وليس باندفاعية عاطفية وجدانية تأخذنا إلى الهاوية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت