إن ميزان الخير والشر إنما هو مرتبطٌ بمصالح الناس في العاجلة كما في الآجلة ،فالشريعة مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح ،إذ لا سبيل للآخرة إلا بعبور الدنيا ، فالدنيا قنطرةٌ موصلة إلى يوم الدين ، ولا صلاح للدين إلا بالإصلاح في الدنيا ، والإفساد في الدنيا فسادٌ في الدين ، والأعمال عند الله في الآخرة بالخواتيم ، ليتم الجزاء على ما قدم العبد من عمل ، ليتحقق العدل فيمن أساء في الخاتمة وإن سبق منه إحسان ، ويظهر الفضل فيمن أحسن وإن تخللته إساءة ، والناس عند الله في الآخرة فريقان لا ثالث لهما ، فمن كان كافرا يعمل السيئات ، قال الله تعالى فيه : {وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }يونس27 ، و من كان مؤمنا يعمل الصالحات ؛ فقد قال فيه :{الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ }الرعد29 ،فالجزاء من جنس العمل ، وخير الناس هم أهل الإيمان والعمل الصالح ، وشر الناس هم أهل الكفران والعمل السيء ، قال سبحانه :{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ{6} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ{7} } البينة .
عباد الله ،يا إخوة الإسلام :وإن أعظم الصلاح وأزكى العمل هو العمل الذي يتعلق بالشأن الأعظم ، والمحل الأكرم ، والذي هو أصل العمل الصالح كله ، فالعمل الذي شأنه هو الأعظم ألا وهو ما كان حقاً لله ، ومحله هو المحل الأكرم من العبد ألا وهو القلب ، وهو الإيمان بالله تصديقاً وقصداً ، تصديق ويقين واطمئنان القلب بتوحيده وإخلاصه لله رب العالمين ، هو أشرف وأعلى وأغلى ، وهو أساس الثواب والعقاب ، ثم إقرار اللسان وامتثال الجوارح والأركان لمدلولات ومقتضيات الإيمان وهو عملها الصالحات ، ولذلك ما من موضع في القرآن ولا السنة إلا وقدم الشرع فيه الإيمان - بتلك المثابة أعلاه - وثنى بالعمل الصالح ، انظر قوله جل وعلا : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }البقرة82 ، وقوله : {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً }النساء57 ، وقال عز من قائل :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }الكهف30 ، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل وغيره عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ قَالَ ثُمَّ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ ثُمَّ يَقُولُ التَّقْوَى هَاهُنَا التَّقْوَى هَاهُنَا " .
عباد الله ،أيها المؤمنون يا إخوة الإسلام :قال الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى : ( ولهذا جعل النبي صلى الله عليه و سلم مرتبة الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين ومن هنا قال بعضهم ما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره ) اهـ .
وفي الحديث في الصحيحين وغيرهما واللفظ للبخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم أي الأعمال أفضل ؟ قال ( إيمان بالله ورسوله ) . قيل ثم ماذا ؟ قال ( جهاد في سبيل الله ) . قيل ثم ماذا ؟ قال ( حج مبرور ) .
وبالمقابل فإن أشنع الذنوب والمعاصي وأسوأه هو الشرك والكفر بالله باتخاد النديد له سبحانه وتعالى ، لأنه ظلم من ناحيتين بل من ثلاث : من ناحيةٍ جحدَ حقَّ الخالق في عبادته وحده لا شريك له ومن ناحية ثانيةٍٍ جعله للمخلوقين دون الله أو معه سبحانه وتعالى ، والثالثة ظلمَ نفسه بهذا الفعل فأوردها النار ، فاستحق أن يكون هذا منه ظلماً عظيما ، قال الله عز وجل في وصية لقمان لابنه : {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }لقمان13 . وفي الحديث فى الصحيح من حديث أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال قلت : ثم أي قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قال : قلت : ثم أي قال : أن تزاني بحليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق قول النبي صلى الله عليه و سلم : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا يزنون }الفرقان : 68 ) اهـ .
إخوة الإسلام عباد الله : وبنو آدم أنفع للخليقة في تحقيق مصالحها وما خلقت له ولذلك كرمهم الله على الخلائق وفضلهم عليها فقال سبحانه : {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70 ، بل ولم يكتف بذلك بل سخر كل شيء لهم قال تعالى : {اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ }إبراهيم32 ، وقال تعالى :{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ }لقمان20 قال الإمام ابن كثير :
( يقول تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعله إياها لهم سقفا محفوظا، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار. وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإزاحة الشبَه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل. ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح؛ ولهذا قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي: مبين مضيء.) اهـ .
إخوة الإسلام عباد الله : ومن كان من بني آدم أنفعهم للناس في تحقيق المصالح الدينية والدنيوية ، فهو خيرهم عند الله تعالى ، قال سبحانه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ }الرعد17.
* و روى الطبراني في الكبير وذكره الألباني في الصحيحة عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ؟ و أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس و أحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه دينا أو تطرد عنه جوعا و لأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ، ( يعني مسجد المدينة ) شهرا و من كف غضبه ستر الله عورته و من كظم غيظه و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة و من مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، و إن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل "
* وفي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره "قال الشيخ الألباني : صحيح .
* وروى ابن ماجه بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رَضي الله عَنهما ، أن رسول الله صَلى الله عَلَيه وسَلَّم قال : " خيركم خيركم لنسائه "
إخوة الإسلام عباد الله أيها المؤمنون :لنكن من أنفع الناس وخيرهم للناس كما أمرنا الإسلام ، وكما قال القائل : كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً يرمى بأحجارٍ فيلقي أطيب الثمر
ولنتب إلى الله كما أمرنا فقال : {.. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }النور31 . مصلين ومسلمين على خير الخليقة ، وأزكاها عند الله على الحقيقة ، طائعين الله ما أمرنا قال : {إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}الأحزاب 56 ..اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - وعن سائر الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وجودك وإحسانك ياأرحم الراحمين.
.بقلم /الشــيخ ياســين الأســطل
الرئيس العام ورئيس مجلس الإدارة
بالمجلس العلمي للدعوة السلفية بفلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت