تقف شامخة وسط أعتى عواصف الكون يستهدفها الشرق والغرب بالسوء ليل نهار ولا تنحني لقريب أو بعيد ،يتنافس عليها أصحاب الملل جميعا ويزعمون أنها إرث حضاري لهم وهي لا تعترف إلا باتباعها لله ربا وخليل الله عليه السلام ويجمعها بالقدس تاريخ وحاضر ومستقبل ومصير مشترك ؛يسري فيهما سرطان الاستيطان منذ عشرات السنين في غفلة جسد الأمة الواهن وانشغاله بالشوق للفرج الغائب في عباءة الخليفة المنتظر أو وخزات هنا وهناك تمنع ثورة الأمة وصراخها من آلامها.
ولا يرى الجرح إلا من به ألم ... يناضل أبناء القدس والخليل لقهر هذا الغول الشرس الذي كاد ان يبتلعهما، يتقدمهم شباب المسجد الأقصى كرأس حربة في حرب وقحة ومعلنة ضد ثالث الحرمين الشريفين، ولم تألُ مؤسسات القدس الفلسطينية جهدا في كشف المؤامرة التي تحاك ضد مدينتهم، وتقف الخليل بكافة فعالياتها بقوة أمام الكيان الغاصب-حكومة وجيشا ومستوطنين- لتحافظ على تاريخ المدينة الذي يحاول اغتصابه كما يغتصب البيوت والأرض.
أبدعت مجموعة شبابية في الخليل فكرة لجولة تطوعية في أرجاء البلدة القديمة تحمل بين ثناياها الكثير من الإبداع في المقاومة أسمتها ("جولتنا في بلدتنا") ؛حيث يتم حشد المشتركين عبر وسائل الإعلام المحلية والفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) والمواقع الإخبارية وغيرها في موعد ومكان ثابتين كل أسبوع ليتم اصطحابهم خلال مسار متغير داخل البلدة كل مرة، وصلت الجولات إلى مناطق التماس مع الاحتلال والمستوطنات ،والأماكن التي اتبع الاحتلال سياسات طويلة لتهجير أهلها منها وقطع اتصال أهل الخليل بها- بطريقة أفزعت العدو بلا حجر ولا سلاح، فاحتار كيف يصد هؤلاء الشباب المتحمس لمعرفة معالم بلده ولتوثيق حبل الانتماء لأرض آباءه وأجداده، فمرة شدد عملية التفتيش على البوابات، ومرة أخذ بطاقات الهوية من المنسقين، ومرة دس من يرمي الحجارة على النقاط العسكرية ليخيف المشاركين ... إلخ
استطاعت هذه الجولة أن تكشف جراحاً في جسد الخليل أخفتها السنين والأيام وتخاذل المؤسسات المحلية وإهمالها المتعمد أو غير المتعمد ،وأهمها بناء أضيف للمغتصبة المقامة فوق مدرسة أسامة بن منقذ باتجاه المسجد الإبراهيمي- ليقترب من تحقيق كابوس إقامة حزام متصل من المباني يبدأ من مغتصبة تل ارميدة إلى المسجد الإبراهيمي مرورا بمغتصبة الحسبة القديمة-ارتفع ست طوابق بحيث أصبح أعلى من المبنى الحالي، وعدد كبير من المساجد التي سيطر عليها المغتصبون فحولوها إلى مرافق خاصة بهم وضعوا بها صور حاخاماتهم مثل مسجد الأقطاب في الحسبة القديمة ،أو منعوا المسلمين من الصلاة بها وعمارتها مثل مسجد الكيال، أو هجرت كليا أو جزئيا مثل مسجد السنية، والمقامات والزوايا الصوفية التي تعد سمة بارزة لمدينة الخليل حيث منع الناس من الاقتراب منها وزيارتها مثل زاوية الشيخ كنفوش في منطقة السهلة وزاوية الأشراف على باب المسجد الإبراهيمي بحجة قبر لرجل من بني إسرائيل، أما الزوايا التي تقع خلف مصلى الجاولي :الجعبري والأرزرومي وعمر المجرد والبسطامية وغيرها يُمنع الوصول إليها حاليا بحجة وجود معسكر للجيش بجانب المسجد، وأسيء استعمالها سابقا من الأهالي كزريبة للحيوانات أو مخزن للجنة الإعمار، وبركة السلطان التي تعد معلماً تراثيا إسلاميا بناه السلطان قلاوون لا نستطيع الوصول إليها ولا إلى مقر التكية الإبراهيمية القديم الذي نقل من جوار المسجد الإبراهيمي، ووجدنا في البلدة القديمة بؤسا وصبرا وحكايات صمود تعجز عن حصرها الكلمات.
أما المسجد الإبراهيمي الذي يُنتَقص منه كل يوم، ويدنّس كل يوم ،يشكو إلى الله ولا يجد ناصرا ومنتصرا لله، بل لا يجد من يرفع الغبار عن سجّاده بسجدة، فقد كادت المؤامرة التي بدأت منذ الاحتلال للسيطرة عليه أن تكتمل، وأصبح خبر السيطرة عليه مكتوباً لدى القنوات الفضائية جميعاً العربية والأجنبية وينتظر من يقرأه، تحاصره البوابات الإلكترونية، ويسيطر على معظمه المستوطنون، ويسمحون للسائحين رؤيته ويمنع منه أهل البلد ،وتدنسه أقدام الجنود الصهاينة كل يوم، ويمنع فيه الأذان أكثر من 50 مرة في الشهر، وبرغم ذلك تجد المرابطين فيه دائما.
في البلدة القديمة من الخليل كنوز غطاها غبار الإحتلال والإهمال، تاريخ وحاضر متصل منذ آلاف السنين تحتاج لإعادة اكتشاف واهتمام على كافة المستويات السياحية والسياسية والاقتصادية ،وتركها خيانة في ظل احتلال يسعى لأن يسطر له تاريخا مستعارا ومزيفا له ما بعده .
بقلم: أسامة نجاتي سدر
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت