أنعَشَ فوز الفنان الفلسطيني الموهوب الشاب محمد عساف بلقب (عرب آيدل) قلوب اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتمي إليهم محمد، فهو ينتمي لأسرة فلسطينية لاجئة من منطقة يافا إلى قطاع غزة منذ العام 1948 وتحديداً إلى مخيم خان يونس. وأطرب بصوته وحنجرته التي صدحت ببعض الأغاني الوطنية جموع الفلسطينيين الذين شاركوه نجاحه، بما في ذلك وكالة الأونروا التي ترعرع محمد في مدارسها بقطاع غزة وتحديداً في مخيم خان يونس، وهو مادفع المفوض للوكالة (فليبو غراندي) للقول بعد لحظات من إعلان فوز محمد عساف "إن موسيقى محمد هي لغة عالمية، وهي تتحدث لنا جميعا. كم هو رائع أن يقوم لاجئ فلسطيني من غزة بتوحيدنا سويا بهذه الكيفية".
محمد عساف، سليلُ أجيالٍ فلسطينية نمت وترعرعت حزينة في عموم التجمعات الفلسطينية اللاجئة، وقد تفتّح وعيها على أفق ممدود ومثقل بمرارة الماضي وبالأحزان والهموم، تُحيط به الخرائب والمآسي وتُحاصره الأسئلة الصعبة، وقد هَرِمت بعضٌ من تلك الأجيال الأولى من أبناء النكبة وهي تحمل حصيلة مأساوية لعمر حزين كاد أن ينقضي دون أن تحقق حلمها الموعود بالعودة إلى فلسطين إلى يافا وحيفا وعكا وصفد واللد والرملة ... لكنها بالمقابل أضافت زرعاً جديداً من دفق الأجيال الجديدة التي أنجبتها، كان منهم الشاب الموهوب محمد عساف، وهي تحمل الراية وتسير بها بإرادة أقوى وأوسع مما حمله الجيل الأول والثاني والثالث من نكبة فلسطين، مدونين على جدران كل مخيم وتجمع فلسطيني في الداخل والشتات عبارات صارخة تقول "عذراً فيثاغورث فلسطين هي المعادلة الأصعب"، "عذراً إسق نيوتن الأقصى وكنيسة القيامة مركز جاذبيتنا"، "عذراً ديكارت أنا فلسطني إذاً أنا مُبدع وموجود".
فوز الشاب محمد عساف بلقب (عرب آيدل) يُلخص في واحدة من تجلياته قصةُ شعبٍ نصفه تحت الإحتلال ونصفه الأخر في دياسبورا المنافي والشتات، قصةُ شعب مازال حياً في فرادة تميّز بها الشعب الفلسطيني بالرغم من أهوال أكثر من (66) عاماً من عمر النكبة الكبرى والنكبات التي حلت فوق رأسه، فرادةٍ أنتجت ومن بين عثرات اللجوء وحياة التعتير والشقاء خصوصاً في سنوات النكبة الأولى أجيالاً إستثنائية، وقد حَفرت تلك الأجيال طريقها بأظافرها على الصخر الصلد والقاسي، وصنعت مستقبلاً جيداً ومرموقاً بالرغم من كل شيء، في مجتمع فلسطيني لم تَعد الأمية موجوده فيه بين الداخل والشتات تقريباً، فيما يتزاحم بين صفوفه حاملي الشهادات العليا من كافة الإختصاصات، ليصبح شعب فلسطين اللاجىء والمكلوم والمجروح حتى الثمالة معلماً وملهماً لجموع كبيرة من أناس عالمنا العربي، حيث إنطلقت البعثات التعليمية من فلسطين بإتجاه العديد من بلدان العالم العربي أصلاً قبل النكبة ومنذ العام 1932، وتزايد منسوبها بعد النكبة. إنها فرادة شعبٍ عَلمَ جموعٍ بالملايين من عالمنا العربي في العشريات الأولى والثانية والثالثة التي تلت النكبة كتابة الحرف مع تفكيك وتركيب الجملة، وكتابة وصياغة وماهية المعادلة، وجبر الرمز، والبنى الجبرية، واللوغاريتم، و الـ "sin" والـ "cos" ومعنى ومبتغى الرقم و"الاكس والواي والزد والبعد الرابع" … ليصبح هذا اللاجىء الفلسطيني وبعد طول إنكسار وتعتير وشقاء وبؤس، في مصاف رواد الإنتلجنسيا العربية حاملاً رسالة العروبة في العلوم والثقافة والأداب الإنسانية، من كليفلاند وشيكاغو الأمريكية، أو وكالة ناسا، إلى إكسفورد وكامبردج، وصولاً إلى مابين المحيط والخليج، وقد أنجب عمالقة في علوم الطبيعة والعلوم التطبيقية، وفي الأداب الانسانية، وعمالقة في الشعر العربي المعاصر، ومن قلب المعاناة من أرضٍ تحت الإحتلال ومن بقايا شعب بقي لاجئاً فوق أرضه عام 1948لإي وفي الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة … كان أخرهم الشاب المتألق محمد عساف.
إن بأس المسيرة الوطنية للشعب الفلسطيني، أنها لم تكن مسيرة كفاح مُسلحة بالبندقية فقط، فلو كانت بندقية فقط لكانت بندقية لصوص وقاطعة طريق، ولكنها كانت ومازالت نُظُم شاعرٍ, وريشة فنان, وقلمُ كاتب, ومِبضع جراح, وإِبرة لفتاة وزوجة تخيط لزوجها وأولادها ثياباً من قماشة خام كيس طحين الأونروا في وقت كان أسوداً على الفلسطينيين، غابراً حائراً مأساوياً في دنيا اللجوء في الشتات وداخل فلسطين.
لقد فاز إبن الكوفيه الفلسطينية، والذي إستطاع من خلال مشاركته رفع راية فلسطين وإظهار معاناة شعبها. هذه هي المسيرة الوطنية الفلسطينية، التي تتناغم فيها كل مقومات وروافع الصمود والبقاء للشعب الفلسطيني.
فالفنان محمد عساف حمل راية فلسطين وأنطلق بها الآن مؤشراً للعالم بأن الفلسطينيين شعبٌ مُبدع، متميز، ديمقراطي تعددي، وجدير بالحياة الحرة والكريمة تحت شمس وطنه فلسطين.
الأربعاء 26/6/2013
بقلم علي بدوان
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت