أرحموا عساف من توقعاتكم

بقلم: د. مصطفى اللداوي


يبدو أن البعض مما دعم عساف بتصويته توقع إنه بهذا التصويت سوف يمتلك محمد عساف، الذي يجب أن يحفظ الجميل ولا ينكره. ولذلك توقع أنه كان على عساف الذي قدم إلى غزة في زيارة قصيرة جداً أن يزور كل منزل صوت له ليسلم على أفراده فرداً فرداً، وربما أن يمنحهم أمسية غنائية عرفاناً بالجميل. وتوقع البعض الأخر أن تقام لعساف الحفلات اليومية في غزة دون أن يدركوا الوضع الخاص لغزة الآن، وأن الحكومة القائمة في غزة لا تدعم وتشجع مثل ذلك، فهي قد اضطرت لاستقباله في غزة على مستوى رسمي منخفض منعاً للإحراج فقط بعد أن تحول عساف إلى ظاهرة شعبية لم تستطع الحكومة الربانية أن تهملها أو تتجاوزها. ولذلك تم الاستقبال بشكل منخفض، وكانت الرغبة الحقيقية هي ضرورة مغادرته غزة، حيث يراهن بأن هذه الظاهرة الشعبية هي ظاهرة فنية شعبية عابرة سوف يتم تراجعها وتهميشها تدريجياً بانشغال الشعب الفلسطيني في همومه اليومية. ولذلك كان على مشجعي محمد عساف أن يدركوا الظرف القائم، وعدم المبالغة في توقعاتهم بهذا الشأن.
ولكن ما رغبت في قوله في هذا المقال يتجاوز ما قلته أعلاه، فقد شجعنا محمد عساف ليس لأنه ابن بلدتنا الأصلية، التي كان يجب أن يشير إليها في حلقاته ليبرز أنه لاجئ، وأنه سيظل يدافع عن بلده الأصلية كجزء عزيز من وطنه الكبير فلسطين، وبالتالي يحول قضية اللاجئين إلى قضية حية ومتفاعلة. لقد شجعنا محمد عساف لأنه فلسطيني من مخيم للاجئين، رفض التهميش، وقرر أن يكافح في سبيل إبراز موهبته، التي بقيت أسيرة الحصار، وأسيرة مناخ سياسي واجتماعي وديني تحاصر، وتحرم الغناء. وبالتالي قام محمد بإخراج موهبته إلى النور. وكافح بقوة ليقول للعالم "إنني موجود، وأرفض القهر والحصار والتقوقع"، إنني موجود وأرفض الموت الذي يفرضه علي الاحتلال من جهة، وذوي القربى من جهة أخرى، وكل له دوافعه ومصالحه. ومن هنا كان الاحتضان الفلسطيني لمحمد عساف، كونه فلسطينياً، وشعبنا الفلسطيني أصيل بنخوته، ودعمه، ومناصرته للفقير المهمش لكي يكون شيء. وشعبنا الفلسطيني يدرك تنوع طاقات أبناءه، وأن عليه أن يحتضن هذه الطاقات والإبداعات، ويقوم برعايتها. وبالتالي يوصل رسالة لمن يريد وضع الشعب الفلسطيني في قالب معين، ويستنسخ على طريقته الخاصة. فالشعوب الحية هي الشعوب التي تؤمن بالتنوع والاختلاف، وأن المجتمعات تتقدم بإبداعات في جميع الميادين. وأنه لا يمكن أن يتم فرز الشعب على فرازة فصيل هنا أو هناك. فمحمد لديه موهبة غنائية، وغيره له موهبة في الرسم، وثالث وهكذا دوليك، لأن المثل الشعبي يقول "أطابع اليد مش واحدة". ولذلك نجح محمد في اختراق القالب التصنيفي الذي أراده البعض أن يتموضع فيه، وخرج مغرداً من قفص المكان، وقفص العقل والفكر. خرج يكتشف ذاته، ويبرز موهبته، ويظهر كفائته. وقد نجح محمد في ذلك لأنه أمن بنفسه أولاً، وأمن بموهبته وكفاءته، ثم أمن بأصالة شعبه الذي لن يتخلى عنه.
ومع ذلك فإنه وبالتحليل النفسي للمشهد الذي حدث، فإن ما حدث يبرز توق شعبنا إلى أمور عدة:
- توق شعبنا إلى إثبات وجوده، بأنه شعب حي وموجود، وينجب المبدعين في مختلف الميادين حتى الغنائية منها. وأن هذا الشعب العظيم غير قابل للتهميش أو الفناء كما يريده الأعداء.
- رغبة شعبنا في إبراز حبه للحياة، وأنه مثل الشعوب الأخرى يحب الحياة والتي أحد مظاهرها الغناء والطرب. وبالتالي يقذف شعبنا عن نفسه تهمة الإرهاب والدموية التي تروجها آلة الإعلام الصهيونية. فالشعب الفلسطيني يقاتل في سبيل قضية عادة، ويقاتل أعدائه. فهم يحب الموت في سبيل وطنه، دون أن ينسى انه يعشق الحياة كبشر.
- سعي شعبنا إلى إبراز طبيعته بأنه مجتمع متنوع، يضم أراء وأفكار عديدة، وأنه يرفض أن يتم وضع الشعب في قالب واحد بدافع أيدلوجي ديني وغيره. فشعبنا يضم طاقات وإبداعات في جميع الميادين. وأنه من الصعب أن يتم وضعه في تصنيف ثقافي واحد.
- الجانب المهم في المشهد هو توق شعبنا إلى الوحدة الوطنية، واستعادة روح التضامن والتكافل الاجتماعي الذي فقدها شعبنا منذ سنوات. فمن يلتفون حول من يغني للوطن، لتراثه، وقضيته، وكوفيته، بعد أن ساد الخطاب الفصائلي، وتاه الوطن في غياهب انقسام مر مزق وحدة الشعب، وأدخل المشروع الوطني في متاهات، وجعل القضية تتراجع إلى الخلف كثيراً. فالشعب احتضن محمد عساف لأنه قدم نفسه كفلسطيني وليس ابن فصيل هنا أو هناك.
- الجانب الأكثر أهمية هو التوقع الكبير الذي حمله أبناء الشعب الفلسطيني الداعمين لمحمد. فقد وضعوا له خارطة طريق أكبر منه، بل أكبر منا جميعاً. وحولوه إلى بطل سوف يوحد القطرين، دون أن يدركوا أم محمد هو فنان وليس قائداً سياسياً. فشعبنا يبحث عن بطل حتى ولو كان بطلاً فنياً. فمحمد قد يحمل رسالة فنية، وهي وإن كبرت لن تتجاوز حدود فرد سيكون إنجازه في مجال الغناء والطرب. فالشعب الفلسطيني يبحث عن بطل يعيد له وحدته السياسية، يعيد قضيته إلى الواجهة السياسية والإعلامية. وعلينا أن ندرك أن محمد ليس هذا البطل. فالبطل الحقيقي هو بطل سياسي وليس بطلاً فنياً. وربما فقدان ثقة شعبنا في قيادته السياسية هنا وهناك هو من جعلهم يتوهمون محمد بأنه المنقذ من الانقسام، والمنقذ للمشروع الوطني. فمحمد أولاً وأخيراً فنان، ورسالته داعمة للوحدة ولكنها ليست صانعة لها. فصناعة الوحدة هو موضوع كبير تتعلق بعبقرية قائد، وعظمة شعب عليه أن يناضل ويكافح، ويضغط على قادته السياسيين من أجل تحقيق الوحدة. ومحمد في فنه هو حمل رسالة الجماهير، ولكنه ليس البطل الحقيقي الذي يجب أن يحمل الشعب عليه عجزه في تغيير واقعه المنقسم. وهنا تكمن إشكالية سيكولوجية في الكثير من أبناء شعبنا ممن يتهرب من المسؤولية ويلقيها على أكتاف الآخرين. فالشعب جميعاً عليه أن يكون حامل رسالة الوحدة مع محمد، وضاغطاً من أجل انتزاعها ممن خلق الانقسام، ويعيش على جراحات الآخرين. ومن هنا أتوجه لأبناء شعبي بأن يكونوا عقلانيين، وواقعيين ولا يحملوا محمد أكثر من طاقته.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت