( ذَرهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) الحجر
ما خُلق الإنسان ليعيش كما تعيش البهائم تأكل وتتناسل وتنام دون عقيدة ولا فكر ولا سلوكيات تهذب حياتها، إن الله سبحانه خلق كل شيء ثم هدى وقد هدى كل مخلوق للفطرة التي يستدل بها على حاجته وسلوكيات بقائه ، أما الإنسان فهو مخلوق مميز بالعقل والتدبير والإرادة التي إن توافقت مع تحقق المنهج الرباني والعقيدة السليمة والسلوك القويم ارتقى ليرتفع فوق صفات الشهوانية والحيوانية المنفلتة ليهتدي إلى نور البصيرة والرقي الإنساني .
وما كان الله ليَخلق الخلق ويتركهم دون دليل ولا سبيل للهدى يُقييم حياتهم ويبنى فيهم الأخلاق الراقية التي تعبر عن البشرية الحقيقية والإنسانية المتفرده بين جميع المخلوقات، فأرسل الله سبحانه وتعالى الرسالات السماوية ليُبلغ كل رسول بلسان قومه علهم يهتدون أو يرشدون .
وعندما عجز الأنبياء عن الأخذ بجميع أفراد مجتمعاتهم لطريق الحق والهدى والصراط المستقيم، وعندما انفطر قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم على حال قومه ومن دعاهم للهدى فلم يهتدوا وأعرضوا عنه بالإساءة والتعالي على الحق سبحانه فارتقى بخُلقه العظيم يدعوا الله بأن يخرج من أصلابهم وذريتهم من يحمل أمانة الحق ورسالة السماء .
فهذه الآية رغم أنها جاءت تسلية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيت له على طريق الحق ودعوة ربه له أن يهون عن نفسه فلا يُثقلها في هم دعوة الناس بما لا يطيق ولا يملكه من هداية لقلوب العباد وما ذلك إلا بأمر ربه الذي جعل قلوب عباده معلقة بين يديه يقلبها كيف يشاء فمن شاء الهدى هداه الله ومن شاء الضلال تركه لنفسه وضلاله، فأنت يا محمد صلى الله عليه وسلم ما عليك إلا أن تُبلغ وتدُل الناس للخير وأن تكون سبباً من الله لمعرفتهم للحق وليس عليك هداهم .
وجاء الخطاب لأصحاب الحكمة والعلم والمعرفة بالله والفهم السليم لحقيقة الدنيا ومتاعها وزينتها وغرورها وحقيقة الحياة الآخرة الباقية عند الله بنعيمها وخيراتها وزينتها ومن اهتدوا لطريق الإيمان الحق وكانوا على نور من ربهم ومعرفة من علمه وحكمته سبحانه ، فسارعوا أن يأدوا واجب الأمانة والحمل الثقيل ليدلوا الناس ومن حولهم إلى هذا الخير العظيم عند الله ويكشفوا الغشاوة عن أبصارهم لرؤية حقيقة الحياة والوجود الإنساني فما خُلق أي شيء في هذا الكون إلا ليذكر الله ويعظمه كل بما سخر له وأكرم المخلوقات على الله الإنسان الكريم نال شرف العبودية الخالصة لله سبحانه ليكون عبدا لربه حرا من عبودية غيره .
بعض الناس بل كثير منهم يُنكرون فضل الله عليهم فلا يشكرون ولا يؤمنون ويُصرون مُستكبرون مُعرضون عن ربهم رغم وجود دلائل التوحيد ومعجزات قدرته وعظمته وإرادته سبحانه في كل شيء يحيط بهم، إلا أن القلب الجاحد الكافر يبقى مصراً بالإعراض عمن خلق السموات والأرض وما فيها لأجل سعادة الإنسان الضعيف وراحته ومتاعه ، هؤلاء الفئة من الناس من فَضّلوا الكفر على الإيمان والضلال على الهدى والإعراض على الإقبال والكبر على الخضوع لله، يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه ومن سار على درب مسيرته أن يُعرضوا عن الاستمرار في دعوتهم ولا ينشغلوا بهم عن أمور علها تكون أعظم من محاولات هدايتهم فقول الله سبحانه وتعالى ( ذرهم ) أي اتركهم ودعهم لدنياهم الحقيرة التي تعلقت بها قلوبهم وفرحت بها نفوسهم ورقصت لها عيونهم بزخرفتها وبهرجتها الزائفة .
و أول ما وصف الله سبحانه وتعالي من سلوك إنساني ينشغل الإنسان به عن ربه ويلهو به قلبه سعيه لإشباع غريزة الطعام والشراب، حيث تكون بإفراط وزيادة تمتع ويكون السعي لكسبها بأي طريقة فلا يهم إن كان المال لتحصيل المتعة حلالاً أم حراماً ولا يهم إن كان الطعام والشراب نفسه قد أحله الله أم حرمه، المهم أن تُشبع نزوات النفس وشهواتها دون ضوابط إيمانية وقيم أخلاقية تنظم الشخصية الإنسانية .
وقول الله سبحانه ( ويتمتعوا ) المتاع هو السعادة أو النشوة التي تصاحب الإنسان عندما يحقق ما يشتهيه وسرعان ما يزول أثرها، وهو ما يأخذه الإنسان من زاد يُنتفع به ويُعينه في رحلة الطريق، وهو ما يعود على صاحبه بالفائدة والانتفاع والمسرة ولعله كثيرة ارتبط بالحياة الدنيا أكثر مما ارتبط بالحياة الآخرة أو لم يذكر معها .
كما أن زيادة الأكل والشرب بإفراط يؤدي للتخمة عند الإنسان مما يجعل العقل مغلقاً عن رؤية الحق وتَلبَسه الغشاوة فلا يبصر ولا يسمع قول الحق ويمرض القلب بالقسوة ويضعف البدن عن الحركة والهمة العالية ومن الممكن أن يقود ذلك الإنسان لمعاصي وذنوب عديدة، وغالبا ما يجتمع التلذذ بالولائم والأطعمة والأشربة في مناسبات الفرح مما يؤدي للانغماس في الآثام والذنوب بل تصل أحيانا للسكر والزنا وغير ذلك إن إنتفى الإيمان .
لم يُكتفى بلذات ومُتع الجسد والغرائز الشهوانية المختلفة بل صاحبها كثرة الأمل وحب الحياة والتمسك بها ونسيان الحياة الآخرة وحقيقة الموت المحيط من كل جانب بل مُشاهد أمام أعينهم في كل يوم وممن حولهم من أهليهم ومعارفهم حيث تركوا الدنيا ورحلوا، لكن الغفلة والنسيان السريع لقدرة الله سبحانه المحيطة في كل شيء بل لشدة فرحهم بالدنيا وحبهم لها ظنوا أنهم مُخلدون لا موت يقع بهم ولا رحيل عما جمعوا وأعدوا من أموال وممتلكات وما عمروا من بيوت وقصور فامتدوا في طغيانهم يعمهون وأخذه الغرور إلى حيث لا يعلمون .
فالأمل الوهمي الزائد عن حده والموجود في غير مكانه والخارج عن منطقه أغلق مداخل القلب عن معرفة الرب والنظر بالبصيرة الحقة النيرة لمعرفة حقيقة الدنيا وأين يسير الإنسان بها ولما وجد فيها ولو أنهم أمنوا لأبصروا وعرفوا الحق والحقيقية التي تفاجئهم يوم القيامة فيصعقون لهولها .
فقول الله ( فسوف يعلمون ) تأكيد أنهم الخاسرون وأن أملهم هذا هو وهم وضلال وظلم لأنفسهم و سيحين الوقت تُبصر فيها أبصارهم القلبية المعطلة في الحياة الدنيا لترى يوم القيامة بأهوالها وعظمتها فيتحقق لهم العلم واليقين لكن لا نفع لهم به بعد أن فات الأوان وانقطعت الدنيا عن الوجود وعاد كل شيء لنشأته الأولى وأيضاً يتحقق جزء من العلم والبصيرة عند موتهم حيث تتكشف لهم حقائق غابت عنهم فلا رجعة وعودة للدنيا إلا الحسرة والندامة والإستعداد للعذاب الأليم .
فلا يغتر الإنسان بكثرة الأمل ولا بكثرة الرجاء بالله دون عمل، فالعبد المؤمن يعيش على الخوف والرجاء على أمل أن يرحمه ربه ويعفو عنه ويتقبل منه صالحات عمله وقوله فإن غفل القلب عن ذلك دخل في متاهات الهلاك والبعد عن الله .
كما أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الأمل الحقيقي الذي يجب أن يتأمله الإنسان من خلال تلك الآية بقول سبحانه
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)الكهف
أعظم ما يحبه الإنسان ويميل له قلبه المال والولد فهما الزينة التي يتفاخر بهما أمام غيره فمن ملك المُلك والمال الكثير لن يحتاج لغيره بل ملك القوة وأصبح الناس له أذلاء يقفون على بابه ويحتاجون إليه، كما أن من امتلك الولد كان له ذلك مزيد قوة وتفاخر وقد أحبت العرب التفاخر بالأنساب والأولاد والأموال قديماً وما زال، فهذان المصدران من أهم مصارد القوة المادية للإنسان ولكن ما الفائدة إن امتلكها الإنسان بعيداً عن مخافة ربه وتقواه ولم يُسخرها لأجل مرضاته سبحانه وعمارة الأرض بالخير والصلاح وغلبه الظن أن ما يملكه سيحميه من مضار الحياة وما تخبئه له الأيام فما دام يملك مالاً وولداً فهو يملك الأمل ببقاء القوة لديه، ويأمل بعد موته أن يرث أبناءه ماله واسمه فيرفعون له ذكره فيزداد فخراً بذلك لفعله شيئاً عظيماً لنفسه .
رغم أن الله سبحانه وتعالى وهب تلك النعم العظيمة للإنسان وفطر غريزته على حبها والسعي لنيلها فهي من مقومات وأساسيات الحياة والبقاء إلا أنه سبحانه أكد أن ما ذلك إلا زينة زائلة ليست بالحقيقة التي تنفع الإنسان حقاً بعد موته بل ما يبقى وينفع في الأرض أن يُسخر كل ما تفضل الله به عليه من خيرات لأجل رفعة الحق ونشر الصلاح وعمارة الخير والفلاح فيها فذلك كما قال الله خير عنده في الثواب والأجر وخير كي يعيش عليه الإنسان بأمله ورفع همته فكلما تذكر أنه ينفق من ماله في سبيل الله ولأجل الله ارتفعت معنوياته وشعر بالسرور والأمل بالخير لأنه يفعل ما يُرضي الله بل يعود أثر العمل الصالح بالخير الكبير والسريع على صاحبة بزيادة راحة وسكينة وطمأنينة وصحة وعافية في النفس والبدن، فأمل الإنسان المؤمن معلق بالله سبحانه وتعالى وحده وليس بماله ولا ولده إنما هما سببان كي يصل بهما الإنسان المؤمن للأمل بالله ونيل ثوابه عنده سبحانه وأجره العظيم .
فبدون شك أن الإنسان دون الأمل لن يستطيع أن يعيش سوياً ولا أن يقبل على الإنجاز والعطاء فهو بلسم الروح وشفائها ، فمفهوم الأمل أن يتوقع الإنسان الخير بالقادم من الأيام وأن ينال منها ما يخطط له ويسعى إليه من سعادة للنفس وراحتها ولكن بشرط أن لا يملأ قلبه منه فيغفل عن ربه والحياة الآخرة والسعي إليها طمعاً في سبيل نيل المزيد من الحياة الدنيا التي أحبها حب العشق لشهواتها وزخرفها فأوقعته في غرورها فأصبح من الغافلين عن المعرفة اليقينية .
آمال أبو خديجة
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت