كنت أود أن اكتب عن العبر للإرادة الشعبية التي أحياها الشعب المصري، والوقوف على دلالات الديمقراطية الشعبية باعتبارها أرقى أنواع الديمقراطيات، وان صندوق الاقتراع حتما لا يمنح صكا بالشرعية على اهمية الشرعية الدستورية الا أن الشرعية الشعبية هي الأساس والتي تعني قبول الناس وليس فقط احترام الاجراءات. لكن بيان ثلة من رجال الاصلاح الذين "اعتبروا أنفسهم قيّمين على قيم المجتمع" في مخالفة واضحة للتنوع والاختلاف، كما أن إلغاء الحفل في مدينة الخليل على إثرها يشير إلى ضعف مؤسسات الدولة المؤدي الى انهيارها.
(1) إلغاء حفلة عساف في الخليل والقيّمون على القيم
أرسلت ثلة "جَمَاعَةٌ ، فَصِيلَةٌ ، طَائِفَةٌ" من رجال الاصلاح في مدينة الخليل يرفضون اقامة حفل في مدينة الخليل، هذا الطلب قد يكون منطقيا لو جاء على خلفية عدم قدرة السلطة على تنظيم الحفل، كما جرى في الحفل المقام في رام الله قبل عدة ايام، نتيجة توافد اعداد كبيرة في ساحة غير مهيأة؛ حيث تشير المعلومات الى توافد حوالي 120 الف مواطنا الى ساحة لا تتسع لعدة آلاف، وغياب التنسيق ما بين مؤسسات السلطة خاصة مع جهاز الشرطة.
لكن رسالة "ثلة من رجال الاصلاح" تشير الى قضايا خطيرة تمس مكانة مؤسسات السلطة، والقيم التي بني عليها المجتمع الفلسطيني القائمة على التنوع والاختلاف والانفتاح وقبول الآخر بالإضافة الى الاقبال على الفرح في ظل حياة ملؤها الألم والحزن.
في رسالتهم يدعون أنهم " قيّمين على قيم المجتمع والمحافظة عليه من الرذيلة والهبوط الأخلاقي" بهذا ينصبون أنفسهم بديلا عن مؤسسات السلطة الفلسطينية التي من مسؤولياتها الحفاظ على الاداب العامة والصالح العام دون غيرها من مجموعات أو أطراف هنا أو هناك. كما أن قيم المجتمع ليست ثابتة تتغير مع تطور المجتمع ونموه، وتختلف من جيل الى جيل. وفي دولة "القانون" يخضع الناس لإحكام القانون الصادر عن الجهات المختصة وتنفذه مؤسساتها. فماذا نقول لو خرجت علينا قوة مسلحة أو مجموعة تكفيرية في هذه المنطقة أو تلك تريد أن تطبق احكام تؤمن بها كما حدث/ يحدث في بعض المناطق في تونس واليمن وسوريا وغيرها.
كما أن الرسالة حملت فتوى خطيره تحكم بحرمة اقامة الحفلة بسبب الاختلاط؛ وهي تميل الى الاخذ برأي جماعة محددة تمنع الاختلاط متناسين بذلك سنة الحياة التي حبانا اياها رب العالمين "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" الا اذا اقتصر التعارف على الذكور دون النساء. وبنى ثلثة رجال الاصلاح هذا الحكم على أن كلام المغني فاحش وهو تناقض "فاحش" لما هو معهود بالمغني الذي غنى لفلسطين والثورة والكوفية رمز كل الفلسطينيين على اختلاف مشاربهم الفكرية وتجمعاتهم السكانية واختلاف عادتهم. وكذلك على التحرش بدليل ما حصل في حفلة رام الله "والتحرش بين الشباب والفتيات... والدليل على ما نقول هو ما حصل في حفلة رام الله من تحرش جنسي" هذا التعميم الذي جاء في رسالة ثلة رجال الاصلاح مبني على خبر نشرته وكالة أنباء الكترونية تابعة لتنظيم سياسي محدد يعارض الفن ولا يرغب بوجود سوى لون واحد وطريقة واحدة للحياة؛ وكأن الفلسطينيون شكلا واحدا ونمطا واحدا، ولا يؤمنون بالاختلاف ويتناسون ان الله خلق اصابع اليد مختلفة "فاتقوا يا أولي الألباب".
صعّد ثلثة رجال الاصلاح في فتواهم " والتمايل وهو وسيلة للحرام ومقدمة من مقدمات الزنا والقاعدة الشرعية تقول الوسيلة إلى الحرام حرام شرعا" هنا يجب التمييز بين الاستنتاج الذي ذهبت اليه هذه "الطائفة" المبني على الشائعات و/ أو رؤية جماعة محددة لتنميط السلوك البشري، وما بين القاعدة الشرعية التي لا نقاش فيها. وان كنت أعتقد أن يدعوا رجال الاصلاح لإصلاح السلوك والحض على منع شبابنا عنه؛ خاصة ان التحرش اللفظي منتشر في ميادين مدننا وهذا الامر لا ينكر.
لكن ما ذهبت اليه رسالة "طائفة" من رجال الاصلاح "التحرش الجنسي" يعني أن التحرش المقصود لا يقتصر على التحرش اللفظي أو اللمس بالأجساد بل أيضا الى الاغتصاب، الذي لم تسجل أي حالة في مراكز الأمن الفلسطينية، وهذا يأتي للترويع أكثر منه للنصيحة. بل الاخطر وصف مدينة رام الله من قبل هذه "الجماعة" بالانهيار الاخلاقي، كما جاء "أظهرت صور التقطت للحفلة حالة الإنحدار الأخلاقي التي تعيشها المدينة"، هذا التوصيف لمدينة فلسطينية خطيرٌ لأنه يأتي على لسان "رجال اصلاح" لهم كلمتهم في محافظة الخليل هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية الصور الملتقطة والمنشورة على وكالة شهاب الالكترونية لا توحي ابدا بوجود تحرش جنسي بل تشير الى فرحة مفرطة، وانبهار بفنان عشقه الشعب الفلسطيني، وسهل له سبل النجاح ، ولأن لحظات الفرح قليلة عند شعبنا في ايام حزنه الطويلة قد انست البعض منهم متطلبات السلوك "القويم" وفقا لجماعات هنا وهناك.
أما الاسباب الاخرى التي ذُكرت في رسالة الرفض لإقامة الحفلة اريد منها خلط الحابل بالنابل " لعدم مراعاة حرمة الشهر الفضيل ... وعدم مراعاة حرمة دماء المسلمين في سوريا ومصر.... أن ينسى الناس الاحتلال" وهي جميعها مردود عليها فالحياة والموت والفرحة والحزن هبة رب العالمين وإلا لما نقيم افراحا بالزواج في ظل الاحتلال أكان علينا أن لا نفرح إلا عند ازالة الاحتلال الجاثم على صدورنا منذ أكثر من اربعين عاما ونكبتنا لأكثر من ستين عاما، وهذه الاسباب دعوة لوقف الحياة. فالشعوب التي لا تفرح لا تعرف الانتصار ولا طعم فرحته وكذلك تخالف سنة الحياة.
قبل اسابيع قليلة احتج "اهل" الخليل على حصتهم في حكومة د. رامي الحمد الله باعتبارها جزءا من مغانم الحكم في مدينة رام الله لكن ثلثة رجال الاصلاح لا يرغبون بنصيب الخليل بالثقافة والفن. وهل يجوز لنا مثلا أن يكون حضور حفلة عساف في مدينة بيت لحم فقط لأهل المدينة ويكون السماح بالحضور فقط على الهوية ومكان السكن للاستمتاع بالفن وأغاني محمد عساف؟ أم الحكم مسؤولية المواطنين والفن ليس للجميع؟
(2) الوزراء والموقف الشخصي
دعا وزير الأوقاف د. محمود الهباش الفنان محمد عساف الى إلغاء أية حفلات في فلسطين، وكذلك تلفزيون فلسطين الى وقف نقل أية مظاهر احتفالية مشيرا الى أنه موقفا شخصيا وليس للحكومة دخل فيه. هذا الامر ممكنا لو كان د. الهباش مواطنا عاديا لا يحمل منصبا رسميا رفيعا؛ فهو وزيرا لكنه ليس كأغلب الوزراء، فوزير الأوقاف له مكانة كبيرة لما للمكانة الدينية للوزارة ومواقف وزيرها الشخصية والحكومية تشكل منبرا لقادة الرأي ووسيلة الاعلام التي يكون منها المجتمع الفلسطيني ارائه وهي المساجد.
كما أن الحكومة البرلمانية لا تتيح لأشخاص وزرائها نشر آراء شخصية لهم فهي متضامنة أي انها تتحمل مسؤولية اخطاء اعضائها، ومن ناحية ثانية تتقلص الحرية الشخصية للمسؤول السياسي وآرائه في القضايا العامة فما بالكم في القضايا الاشكالية والتي بها جدال بين المجموعات المختلفة في المجتمع. واعتقد أن ثلثة رجال الاصلاح في الخليل قد استمدوا من دعوة د. محمود الهباش القوة لطرحهم و/ أو انها شجعتهم.
تذكير: اليوم تنتهي المهلة الدستورية "الاسبوعين" لرئيس السلطة الوطنية لتكليف رئيس حكومة بعد استقالة د. رامي الحمد الله.