في العشرين سنة الماضية خاضت العديد من الحركات الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي تجارب انتخابية عديدة، وفي بعضها وصلت للسلطة ، وذلك بعد سنوات مريرة من العمل الدءوب والدعوة وأحيانا القتال .... ولكنها لم تعمر طويلا ... فهل فشلت أم هناك من سعى لإفشالها ... ؟؟!!
تفاجأت إحدى زميلاتي في العمل من تعقيبي على سقوط الرئيس المصري محمد مرسي وسقوط نظام حكم الإخوان في مصر بقولي : " إنه شيء متوقع ... لأن هناك أزمة في الفكر الإسلامي بين النظرية والتطبيق".... وردّت بتعجب وبسؤال استنكاري : "ولكننا مسلمون ونؤمن بأن شريعتنا يجب أن تسود كل نواحي الحياة !!؟؟
"معتقداتنا يجب أن تسود وتحكم حياتنا " ... كلام جميل ... ولكن كيف ؟! هذا السؤال ... ذكرني بالصراع الفكري الذي كان يخوضه المرحوم سيد قطب في كل كتبه التي حملت فكره وفي محاولاته وجهده الدءوب الذي قضى حياته من اجله وهو يطمح لرسم معالم في الطريق للوصول لذلك الهدف المنشود... "الحاكمية لله" وذلك من وجهة نظر شريعتنا نحن .... ولكن كيف ؟؟! وما هي خارطة الطريق لعولمة هذا الفكر وسيطرته ؟!
كل أمراء الحركات الإسلامية ومفكريها ... ربما رسموا مدينتهم الفاضلة في ذهنهم وفي كتبهم ودراساتهم وبحوثهم ... ووضعوا معالم في الطريق .... ولكن حتى الآن ... لم يخبرنا أحد منهم بخارطة طريقه لهذا الهدف !!!
لم يكن تعثر الإسلاميون في تجربة السلطة والحكم بالشيء الغريب ولا المستبعد فقد حذرهم منه المفكر الإسلامي سيد قطب في كتابه الإسلام ومشكلات الحضارة حيث يقول رحمه الله :
"إن الفقه الإسلامي لا يستطيع أن ينمو ويتطور ويواجه مشكلات الحياة إلا في مجتمع إسلامي ! مجتمع إسلامي واقعي، موجود فعلا، يواجه مشكلات الحياة التي أمامه، ويتعامل معها ، وهو مستسلم ابتداء للإسلام! إنه عبث مضحك أن نحاول مثلا إيجاد أحكام فقهية إسلامية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في أمريكا أو روسيا، فأمريكا أو روسيا كلتاهما لا تعترف ابتداء بحاكمية الإسلام! وكذلك الحال بالنسبة لأي بلد لا يعترف بحاكمية الإسلام !! وكل فقه تراد تنميته وتطويره في وضع لا يعترف ابتداء بحاكمية الإسلام ، هو عملية استنبات البذور في الهواء ... هو عبث لا يليق بجدية الإسلام! ".
لقد كان سيد قطب يشخص فقه الواقع الذي نعيشه وحذر المجتهدين الجدد الذين غرقوا في محاولة فقههم المتدرج للواقع .. وأغرقونا معهم هذه الأيام. لقد كان يطرح بفكره الحازم الحاسم بدون نفاق ديني أو نفاق سياسي (وكذلك باقي المفكرين الإسلاميين ممن هم على مستواه) منظومة إسلامية عالمية مقابل المنظومات القائمة أو المطروحة .. سواء سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا ... منظومة شمولية ... والمنظومات الشمولية لا يمكن لأحدها أن يعبر عبر منظومة شمولية متناقضة معها ، حيث لا يمكن أن يختلط الماء بالزيت، ولا يمكن لمنظومة شمولية إلا أن تقوم على أنقاض المنظومات الشمولية التي تنافسها !
لقد ناقش النظرية الرأسمالية والنظرية الاشتراكية واجتهد كثيرا في طرح معالم للطريق بالوصول للنظرية الإسلامية لتكون هي واقع للحياة بشموليتها وكليتها.... وكما يقول في نفس الكتاب تحت باب (كيف الخلاص؟) : " إن منهجنا هو الذي يقيم الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والتعليمية والتربوية المتكاملة، التي تعيد إنشاء الإنسان في تمام شخصيته".
هذه النظرة الشمولية للفكر الإسلامي اجتهد بها كثير من أمراء فقه الواقع الجديد... وألفوا كتب وأبحاث عدة تتحدث عن المنظور الإسلامي لفقه الواقع في النظرية "الاجتماعية" و "السياسية" والاقتصادية" و"الأخلاقية " .... الخ ... ولكن للأسف لم يخبرنا أحد منهم كيف سيكون شكل صدام هذه النظريات مع نظرية الرأسمالية التي تحكم العالم أو كيف هي ستتعايش معه وكيف سيتقبلها أوكيف ستتقبله ؟؟ كيف سيكون شكل الصدام الحضاري بين هذه النظريات؟ كيف سيكون شكل النظرية الاقتصادية للحكم الإسلامي ؟ كيف ستنسلخ عن النظام الربوي الرأسمالي العالمي؟ كيف سيكون النظام الأخلاقي ؟ وكيف ستتعامل مع نظام العولمة والانفتاح؟ كيف ستشرع لمجتمع ليس كله مسلم وليس كله يرتضى فقهك وليس كله يخضع لشريعتك؟
كثيرون اجتهدوا لدراسة العلاقات الدولية في الإسلام ووضعوا نظريات ورؤى مختلفة ...ولكن هل نظرياتهم التي وضعوها قابلة للتطبيق؟
لقد كانت التجارب السابقة للإسلاميين في الجزائر والأردن وفلسطين وتونس ومصر .... تجارب قاسية ومريرة ليس عليهم فقط ولكن مريرة وقاسية على المجتمع الذي حصل فيه هذا الصدام بين الفكر والنظرية وبين الواقع ... وصار الاجتهاد لفقه الواقع الجديد .... مأزق وضع الناس في عنق زجاجة ولا مهرب منه !!؟
المأزق الذي غرقوا وأغرقونا فيه لأنهم يريدون بناء منظومة إسلامية ذات طموح عالمي .... ودخلوا ليبنوها من بوابة المنظومة التي يريدون مقارعتها ويريدون هدمها فدخلوا انتخابات الدولة "المدنية" وهم يحملون فكر الخلافة الإسلامية العالمية ... وأرادوا أن يخضعوا فكر الدولة "المدنية" لفكرهم فانصدموا .. واصطدموا...وصدموا الناس بواقعهم الجديد ومأزقهم الذي لا مخرج منه ... سوى خروجهم من البوابة التي دخلوا منها لأنهم أصلا بفكرهم لا يعترفون بها ... كما يقول سيد قطب ، رحمه الله، في نفس كتابه الإسلام ومشكلات الحضارة :
"إنني أنكر وأستنكر استفتاء الإسلام اليوم في أي مشكلة من مشكلات هذه المجتمعات. احتراما للإسلام وجديته... وإلا فأي هزء واستخفاف أشد من أن تجيء لقاض تطلب حكمه ، وأنت تخرج له لسانك . وتعلنه ابتداء أنك لا تعترف به قاضيا ، ولا تعترف له بسلطان. وانك لن تتقيد بحكمه إلا إذا وافق هواك! وإلا إذا أقرك على ما تهواه! " ...
أي وعي هذا .... ولماذا افتقده تلامذتك يا شيخ ؟!!
لقد كان هناك فجوة وهوة عميقة بين الأفكار التي طرحتها الحركات الإسلامية ومنظروها ومجتهدوها بمحاولة فقه الواقع وبين الواقع الجديد الذي يصطدمون معه يوميا .... ومع كل صدام كانت الحركات الإسلامية تتشبث ب "شرعية" الانتخابات التي جاءت بهم رغم تعثرهم في محاولة التعاطي مع الواقع من منظورهم وإطارهم الفكري .... فحاولوا أن يجتهدوا ليفقهوا الواقع بإعادة النظر للنصوص والمرتكزات الفكرية لهم ولكن ضمن نفس "الإطار الفكري" ونفس "القوقعة الفكرية" لهم ... فأعاد الناس والجماهير والسلطات النظر فيهم !!؟؟ فكان الصدام المرير معهم .... و من الأمثلة على هذا الواقع الفقهي الجديد :
- اجتهاد الحركات الإسلامية الفلسطينية بقبول دولة فلسطينية في ظل وجود دولة إسرائيل عند حدود 1967، وتخوينهم أو تكفير بعضهم لمن يقول بحل الدولتين ؟!
- تقبل التعامل مع أمريكا ودول الغرب والبحث عن سبل "التعاون الدولي" من وجهة نظر "القواعد والقوانين الدولية الحالية" ... وليس من "منظور الفكر الإسلامي" الذي أرضعوا أبنائهم به !!
- لم يستطع الإخوان المسلمون في مصر، بعد أن حكموها ، أن يطرحوا قناعاتهم أو موقفهم من اتفاقية كامب ديفيد وهي محسومة في الفكري الحركي لهم ولكل الحركات الإسلامية !! فاجتهدوا بفقههم للواقع الجديد وقرروا أن يحترموها !!!
- لم يستطع أحد من الحركات التي ووصلت لسدة الحكم أن تغيير شيء بالنظرية الاقتصادية القائمة والتي تخضع للنظام الرأسمالي ألربوي ولم تطرح أي طريقة معقولة أومقبولة لاقتصاد مستقل أو على الأقل لتناغم النظرية الاقتصادية في الفكر الإسلامي مع النظام الاقتصادي القائم ، وحتى البنوك التي ابتدعوها وسموها "إسلامية" ، هي تحمل شعار التعامل الإسلامي مع عملائها في الداخل فقط، بينما لا تستطيع أن تنفك عن النظام الربوي الرأسمالي العالمي في تعاملاتها الخارجية ... فصاروا كفقهاء بني إسرائيل حين شرعوا للناس بأن ينصبوا شباكهم يوم الجمعة واخذوا صيدهم يوم الأحد ... وأقسموا بالله جهد أيمانهم أنهم لم يعتدوا على حرمة سبت الله !!!
- ومن مفارقات واقع الفقه الجديد ... تعهدات المفكر الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي ، التي سبقت الانتخابات ، باحترام الحريات الشخصية وأنه إذا تولى حزب النهضة السلطة في تونس فإنها لن تمنع الخمور أو النساء من ارتداء البكيني في الشواطئ.... وقول الغنوشي عن رؤيته للسياحة : "أن الإسلام ليس دينا منغلقا، ونحن نريد لبلدنا أن يكون منفتحا على كل الدول، و سنفعل ما بوسعنا لإنجاح الموسم السياحي، ونريد جذب السياح قدر المستطاع، ولكننا في الوقت ذاته قلقون على التقاليد المحلية، ونسعى لوضع وسط".
ومع واقع الفقه الجديد .. .. صارت الفجوة تتسع بين "الفكرة" وبين و"الواقع " ... ولم يكن الناس بتلك السذاجة لكي لا يفرقوا بين فقه الواقع وواقع الفقه الجديد لهؤلاء المجتهدون الجدد ... وبدأ الناس يضيقون ذرعا باجتهادهم المرحلي وفهمهم المتدرج والبطيء للنصوص وللواقع !!!
فهل نضج المفكرون الإسلاميون بفقههم للواقع .... وهل هم الآن يقتربون من فهمهم للعلمانية ليس كمبدأ كفر ولكن كمبدأ وسطي للوقوف على كلمة سواء مع من يختلفون معهم دينا ومذهبا ومعتقدا ...؟! وهل سيأخذون بنصيحة أردوغان يوم زار مصر قائلا لهم :"لا تخشوا من العلمانية". !! وهل حقا بان الدولة "المدنية " مقبولة في فكرهم ؟!
في الختام نقول ، لن يستطيع أحد أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين بدينه أو مذهبه أو فقهه للحياة .... لأنها ديمومة الحياة، كما خلقها الله عز وجل، بصراعها المستمر واختلافاتها واختلاف أفكار الناس فيها واختلاف معتقداتهم واجتهاداتهم وفقههم للحياة .... وسعي كل ذي مذهب ليسود مذهبه ويعلو فكره ... سواء ليبرالي أو يميني أو يساري ... كلٌ يسعى لأن يسود فكره ويحكم منطقه في الحياة.!! ولن يكون ذلك بشطب الآخر أو سحقه أو طرده من المجتمع ...فمن يرد أن يتناغم ويتعايش مع الآخرين عليه أن يتقبل وجودهم ولا يسعى بمصادرة فكرهم وحريتهم وأرائهم أو شطبهم أو حسم مواقفهم لصالحه.
وكما قال رب العزة سبحانه وتعالى : } وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ{.سورة هود.
غزة 5/7/2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت