لقد برهن الشعب المصري، بفئاته الكادحة وبشبابه ومثقفيه، انه يرفض سرقة أحلامه من قبل قوى استخدمت كل الأساليب الملتوية ولجأت الى الدين ، والدين منها براء ، من أجل تحقيق حلمها في السيطرة على أرض الكنانة للانطلاق منها باتجاه محو الهوية الوطنية العربية وتصفية القضية الفلسطينية وانهاء الصراع العربي- الصهيوني، خدمة للمشروع المسمى "الشرق الأوسط الجديد"، الذي صيغ بالتوافق بين الامبريالية الأميركية والصهيونية والأنظمة الرجعية في كل من الخليج العربي وتركيا والذي يهدف الى تفتيت العالم العربي الى دويلات طائفية ومذهبية متصارعة تسهل السيطرة على الثروات التي تزخر بها أرض العرب.
ان الجماهير الشعبية المتدفقة في الساحات والميادين، في المدن والبلدات المصرية، ملايين المصريين يجوبون الشوارع بمسيرات شعبية لتصويب مسار الثورة المصرية في حضور جماهيري غير مسبوق بمواجهة الثورة المضادة ، لم تشهده دولة في العالم، دفاعا عن الخبز والحرية والعدالة والكرامة والدولة المدنية .
وفي هذا السياق نرى ان الاولوية هي العمل من اجل اعلان المبادرة الفورية بعد قرارات الجيش المصري من خلال تأسيس وبلورة الائتلاف الديمقراطي في إطار جبهوي يضم جميع القوى الثورية الديمقراطية إدراكا من الجميع أن مستقبل مصر يكمن في تكريس النظام الثوري الديمقراطي سياسيا واجتماعيا المعبر عن مصالح وطموحات الجماهير الشعبية الفقيرة ، ومن اجل تحقيق أهداف الثورة التي استشهد من اجلها ابناء الشعب المصري العظيم والحفاظ على تحقيق انتصارها ، وهذا يستدعي من الاحزاب والشعوب العربية العمل من اجل مواصلة النضال لتحقيق الاهداف الديمقراطية الثورية على طريق وحدة الهدف الكفيل بإزالة الوجود الامبريالي والصهيوني من بلادنا .
ان الانتصار الجديد الذي تحقق في ميادين النضال على امتداد مصر يؤشر الى مسألتين أساسيتين: أولاهما السقوط المدوّي، ليس فقط لنظام "الاخوان" بل لكل المحاولات المبذولة حاليا من أية جهة أتت رغم ما يقوم به الاخوان بعد اسقاط مرسي بهدف تسعير الحراك المذهبي والطائفي ومحاولة التطاول على الجيش المصري ، الا ان ارادة الشعب المصري الشقيق اكدت رفضها للمحاولات الامريكية والاستمرار في الحراك باتجاه التغيير الديمقراطي الجذري وهذا يستدعي من كافة شعوب المنطقة أن تستفيد من ثورة 30 يونيو من أجل انجاز المهام الملقاة على عاتقها في استكمال التحرر والتقدم الاجتماعي ، ودعم نضال وصمود الشعب الفلسطيني ، لاننا نعتبر ما جرى في مصر سيكون الخاسر الأكبر إسرائيل التي عاشت فترة استرخاء في أكثر من جبهة عربية ما مكنها من التمادي في الاعتداء على الحقوق العربية والفلسطينية تحديداً،
ومحاولاتها الدائمة لاستهداف القوى المقاومة لها في أكثر من ساحة، ولعل الضربة القوية التي تلقاها الكيان ضمن حساباته الاستراتيجية تمثلت في سقوط نظام مرسي بعد نظام مبارك .
إن قراءة متعمقة لما شهدته المنطقة خلال قرنين ماضيين يشير بوضوح إلى أن ما يجري في مصر يؤثر بنيوياً على المنطقة بالكامل، فالمشروع النهضوي العربي الذي كانت انطلاقته من مصر امتد إلى أرجاء المنطقة وتم التعبير عنه ثقافيا وفكريا في أكثر من مكان على امتداد الساحة العربية.
أن ما يجري في مصر له ارتدادته على امتداد الساحة العربية ولاسيما إذا كان منسجما مع نبض الشارع العربي والمصري ومستلهما المعاني القومية والكرامة الوطنية، وهذا باعتقادي حال ما جرى في مصر، فثورة الشباب لا تقتصر أو تختصر أجندتها في قضايا مطلبية داخلية فقط، وإنما ترتبط بمعان وطنية وقومية في صميم الضمير الجمعي للشعب المصري، وهنا يبرز الكيان الصهيوني بسجله الدموي ونمطيته العدائية بكامل صورته أمام الرأي العام الذي لن يرضى بأقل من عودة مصر إلى ساحة المواجهة المباشرة معه والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة ليكون العضد والسند له في مواجهته مع قتلته وجلاديه الصهاينة وأعوانهم ،لهذا نرى ان الأمل على استنهاض الشارع العربي والتي سيفرض متغيرات ايجابية باتجاه سوريا والمنطقة بشكل عام .
ان الشعب المصري في هبته العظيمة اكد تصديه لنهج الارتهان للغرب المستعمر سياسيا واقتصاديا ونهج إدامة الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة والعمل في خدمتها وهو نهج تكريس علاقات الاستغلال الطبقي والاعتماد على المعونات والقروض وأجندة شروطها السياسية على حساب السيادة الوطنية ومصالح عموم الشعب المصري بكل طبقاته وهو نهج احتكار السلطة في مجتمع متعدد وكذلك هو نهج إثارة الفتن الطائفية والمذهبية التي شهدت بها أحداث دموية ضد الأقباط وضد الشيعة في مصر كانت غريبة عن تقاليد المجتمع المصري وعن تاريخه.
إن المنطقة العربية أمام مشهد جديد تحكمه قواعد لعبة لم تكن قائمة من قبل وهي بالتأكيد لا تصب في مصلحة العدو، وهنا يبرز السؤال التالي ترى هل يستطيع القادة العرب استثمار اللحظة التاريخية والانتقال في معادلة الصراع من حالة الانفعال إلى حالة الفعل، خاصة أن نهج المقاومة للمشروع الأميركي الصهيوني استطاع ان يسجل العديد من النقاط الإيجابية ، وسيكون بالتأكيد ملهما لما جرى في مصر رافضا للسياسات الداخلية والخارجية استغلت السلطة واعطت لنفسها صلاحيات لم تكن في مستوى طموحات الشعب .
ختاما لا بد من القول : اننا نتطلع الى المرحلة الانتقالية في مصر، باعتبارها مرحلة دقيقة بالغة الأهمية ، وخاصة ان حركة تمرد التي تعاظم حجمها ونفوذها بصورة مذهلة في أشهر قليلة تؤكد أن قانون التغيير المتدحرج وانبثاق نخب ثورية جديدة هو ما يحكم الواقع المصري الذي سيشهد مزيدا من الفك والتركيب في الحياة السياسية حتى تستقر سلطة جديدة تناسب طموحات المصريين وتطلعاتهم السياسية والاجتماعية والوطنية بكسر جميع قيود الهيمنة الاستعمارية والنفوذ الإسرائيلي وبعودة مصر إلى دورها القومي الطليعي وريادتها الإفريقية والإسلامية كما وصفها جمال عبد الناصر قبل ستين عاماً، ، كما تحمل في طياتها تجربة غنية ليس لمصر وحدها بل للشعوب العربية وخاصة الشعب الفلسطيني الذي يجب ان يرفع صوته بوجه الانقسام الداخلي واستكمال مسيرة النضال من خلال رؤية سياسية واضحة تستند لخيار المقاومة والثوابت الفلسطينية ، كما على الاحزاب العربية تحديد البوصلة ، وترجمة المبدأ الديمقراطي”الشعب مصدر السلطات .
كاتب سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت