تمر حركة الإخوان المسلمين اليوم بمرحلة تعد الأسوأ في تاريخها، وهذا كله من صنع أيديهم وليس من نتاج مؤامرة عليهم كما يتهيؤ لهم ويدعون ذلك كل مرة ينتكسون فيها، وينطبق عليهم قول الله في كتابه العزيز "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون". وإن ذلك لمن المؤسف والمؤلم حقاًلنفس المواطن العربي، لأنهم أخوة لنا في الدم، وجزءٌ لا يتجزأ من نسيج هذه الأمة، ولأن انتكاستهم تؤثر علينا سلباً، وتدفعنا معهم الى الوراء، فمع كل انتكاسة لهم يتحولون الى قوى إحتكاك وشد عكسي، وقوى تدمير ذاتي، تعمل معاكسة لإتجاه حركة النهوض والنمو والتطور، ويصبحون جزءاً من المشكلة وعبئاً ثقيلاً على الأمة، يورثها المصائب الداخلية والخارجية على حد سواء. ولكن السؤال المهم هو:
لماذا هذا التطرف والتعصب والإنغلاق الفكري والإنعزال التام عن مكونات الأمة؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من التطرق لأنواع المعرفة التنويرية للعقل ذات الأبعاد الثلاثية:
• البعد الأول: المعرفة الدينية ا(لعقائدية)، وتعنى بالجانب الروحاني في الإنسان، وهذه المعرفة هي أول ما يتلقاها الإنسان لأنها تنشأ معه من الصغر، حيث يُفطر الصغير على دين والديه، ويعتمد نتاج هذه المعرفة وتأثيرها على النشأ على البيئة التي نشأ فيها الإنسان، وطريقة فهم الوالدين للدين وأدائهم للعبادات ومدى تطبيقهم لأخلاق الدين السامية، ومدى قدرة عقولهم التنويرية على الإستيعاب والتحليل للمفاهيم العقائدية. والتزامهم بتطبيق المفاهيم والنظريات والأخلاق الدينية واقعاً ملموساً أمام النشأ، وحيث أن الأمة مرت بمراحل جهل وتخلف أثناء حقبة الإستعمار، وعانت قهراً وكبتاً منالمستعمرين في مخاضات الإستقلال، فقد تركت تلك التحولات في نفوس الآباء عقداً نفسية، ناهيك عن العادات والتقاليد التي كانت تُراعى وتطبق على حساب نظريات وأخلاق الدين، مما خلف فجوة وجفوة بين النظرية التي ينادون بها وبين التطبيق واقعاً ملموساً. ومن الأمثلة على ذلك نظرة المجتمع للمرأة وكأنها سلعة تباع وتشترى وتعامل كأي قطعة أثاث بالمنزل وتحرم من حقوقها بالميراث نظراً لعدم تقبل المورث والوارث أن تذهب ممتلكاتهم للغريب وهو زوج الإبنة وتزوج دون إبداء رأيها. وتعيش حياتها مغصوبة مقهورة، ومثال آخر هو تطبيق العادات والتقاليد المتوارثة والتي تتنافى مع العقل والمنطق على حساب تعاليم الدين، والحياء من الناس على حساب الحياء من الله، ومخالفة الشرع لحساب تطبيق العادات والتقاليد، والتمسك بالعصبية القبلية واتباع شرائعها الدكتاتورية على حساب المؤاخاة بين الناس والحريات التي وهبها الله لخلقه في التعبير عن الرأي، فلا كلمة ولا مشورة للإبن وعليه أن يلتزم بشرائع المجتمع وشيخ القبيلة المستبد برأيه على حساب شرائع العقل والمنطق والحريات.
• البعد الثاني: المعرفة العلمية وتعنى بالجانب العقلي والوظيفي في الإنسان (التفكر بالخلق وإكتشاف أسرار الكون التي أتاحها الله لنا والإبداع والإبتكار)، وهذه المعرفة بمثابة النور الذي يضيء حجرات العقل، والذي يهدي لمعرفة الخالق ويوثق ويؤكد الإيمان به، ويلزم الإنسان بتطبيق شرعه والإلتزام بأخلاقه السامية، إذ كلما كانت هذه المعرفة العلمية متمازجة ومتآلفة مع المعرفة الدينية، كان العقل نيراً ومستنيراً، وكان الإنسان مقنعاً في طروحاته ومعتقداته إن حاول تعميمها في المجتمع. وقد دعا الله سبحانه وتعالى الى البحث عن هذه المعرفة العلمية في مواضع عدة في القرآن الكريم، حيث كانت أول كلمة في القرآن نزلت على نبينا الكريم "إقرأ" يعني تفكر وتعلم وتدبر في هذا الكون لكي تستطيع الإبداع والإبتكار والإختراع لتتفوق على أعدائك بعلمك، وترهبهم منك لكي لا يعتدوا عليك ويهلكوك فتهلك معك الدعوة ولكي تستطيع الدفاع عن نفسك وعن أتباعك، فبدون العلم والبحث وإعمال الفكر لن تستطيع يا محمد نشر رسالتك وتعميمها على البشر. فكيف ستنتصر وأنت لا تعلم من هذا الكون شيئاً، ولن أهبك النصر دون أن تعمل وتتعلم وتسعي اليه بما أوتيت من عقل وموهبة. إذن هذه المعرفة شعارها البحث (التعلم) والإختراع والإبداع والإبتكار (العمل والتطبيق).
• البعد الثالث: المعرفة الفلسفية والثقافية، وتعنى بالجانب الإنساني والنفسي في الإنسان، وتنطوي هذه المعرفة على أساليب ونظريات علم الإجتماع والإجتهاد والفلسفة والتواصل والتفاوض والتعامل مع الآخر، وتستدعي إعمال الخيال الإيجابي، واستغلال المواهب التي وزعها الله بين الناس من أجل التكامل والتآخي والتكاتف على أساس المعاملة الحسنة واللبقة والإلتزام بأخلاق التخاطب والتفاوض وكذلك الترويح عن النفس، وتعتبر الإطار التجميلي والتكميلي للمعرفة الدينية والعلمية. وهذه كلها وردت في القرآن الكريم الذي جاء بليغاً في لغته ومعجزاً أدبياً وعلمياً، وسلساً يخاطب العقل والمنطق والعاطفة والإحساس والمشاعر، فيه من البيان والتبيين للتشريع، وفيه من الشعر والنثر، وفيه من القصص والعبر ما يأسر العقل، وفيه تطبيق لأساليب الحوار والتفاوض. الحوار بين الوالد وإبنه، وبين الإبن والوالد والحوار بين العقائد المختلفة، والرأي والرأي الآخر، وتحتاج من الإنسان أن يستنبط منه نظريات علوم الإجتماع والفلسفة والتحاور والتفاوض وعلوم النحو والصرف والأدب.ومن كانت لديه الموهبة الأدبية، وقرأ القرآن بتمعن وتدبر لنهل منه كل ينابيع الأدب والمفردات والوزن والنثر والشعر.
الدين يُعنى بالأبعاد الثلاثة للمعرفة، ويحض على تفعيلها وتكاملها في المجتمع لكي تستقيم حياة البشر، وبدون ذلك يبقى المجتمع يدور في حلقة مفرغة، وفي صراعات بينية كما هو حاصل اليوم في مجتمعاتنا العربية، حيث تفسخت أضلاع مثلث المعرفة وتناثرت أبعاده الثلاثة، وأصبحت كل فئة من المجتمع لا ترى الطريق الصحيح مكابرة وعناداً ونبذاً للآخر الا في البعد الذي اكتسبته. وهذا ما يعيب حركة الإخوان المسلمين التي حصرت معرفتها في المعرفة الدينية فقط، وتناست البعدين الآخرين للمعرفة وأغلقت أبوابها، وعزلت نفسها عن باقي المجتمع متلحفة بشعارات دينية ينقصها التطبيق في عالم السياسة والحكم. لأن السياسة ودهاليزها وأنفاقها في يومنا هذا لا تتناسب مع أخلاق الدين وتعاليمه وشرائعه. وفي واقع الأمر فقد تحولت حركة الإخوان المسلمين الى حركة سياسية مارست البراغماتية السياسية البعيدة كل البعد عن الشرائع السماوية السمحة باحثة عن السلطة. ومن جانب آخر فهي لا تعترف بالخطأ ولا تتقبل النقد، وتحاور الآخر بفوقية واستعلاء مُضفية على نفسها القداسة التي يجب الاّ تمس، وكل من ينتقدها تضعه في صفوف الأعداء. وحيث أن مجتمعاتنا العربية تنقصها المعرفة العلمية التي وضعتنا في مؤخرة الأمم على الرغم من توافر كل عناصر التقدم والإزدهار والوحدة لهذه الأمة. لذلك يستحيل في ظل هذه الأوضاع البائسة للأمة أن نسوق أنفسنا للعالم كطليعة عقائدية على الطريقة الإخوانية تستحق الإحترام وعدم التدخل في شئونها الداخلية نظراً لممارساتها الإرهابية ضد شعوبها وبني جلدتها. لأننا لا نستغني عن الآخرين الذين سبقونا وتفوقوا علينا في المعرفة العلمية لذلك فهم يلعبون بمصائرنا ويتحكمون في مقدراتنا.
ولو نظرنا الى تجربة الإخوان المسلمين في فلسطين المتمثلة بحركة حماس، وتابعنا نهجها وتحالفاتها ومسيرتها الوطنية، لوجدنا أنها تهتدي في مسيرتها الباطنية ببوصلة لا تمت للوطنية ومصلحة المواطنين بأي صلة، وعملت على تقوية نفوذها وحكمها في جزء مختطف من الوطن، رافعة شعار المقاومة الذي أصبح في عرفها في طي النسيان لا بل في عداد الخيانة للوطن، وتقلبت في تحالفاتها بين أحضان تحالفات عدة في فترة قصيرة، عاشت في حضن آيات الله في ايران، وحضن حزب البعث في سوريا، وأهواء السياسة القطرية المتقلبة، وأخيراً عادت الى مرشدها في مصر تقبل أياديه وباعت من سبقه من الأحلاف، وها هي اليوم باتت متقوقعة في غزة ومختطفة لجزء من الشعب الفلسطيني، عازلة نفسها عن باقي الوطن، وأصبحت كاليتيم الذي فقد والديه بعد عزل الرئيس مرسي من الحكم ويدفع ثمن تلك التقلبات السياسية الشعب الفلسطيني في غزة.
ونظرة سريعة الى حكم الإخوان المسلمين في مصر، فمنذ فوز الرئيس محمد مرسي بالرئاسة، وتولي الإخوان مسئولية الحكم في مصر، نسيت حركة الإخوان المسلمين مصالح الوطن والمواطنين العليا، وأدارت ظهرها لما تعانيه مصر من مشاكل اقتصادية خانقة، ومشاكل اجتماعية وسياسية حادة، واهتمت وركزت جهودها على المصلحة الحزبية الضيقة على حساب مصالح الوطن والمواطنيين، فتوقفت عجلة المجتمع عن البناء والمسير للأمام، وسخرت سلطتها لتمكين أعضائها من مفاصل الدولة والإستيلاء على كل مفاتيح الحكم والسلطة دون مشاركة من باقي أطياف المجتمع أو حتى الإستماع لمطالبهم.ونسيت أنها فازت بنسبة تعد متواضعة وبدعم من أصوات الأحزاب والأطياف الأخرى التي فاضلت بين مرسي وشفيق في الجولة الأخيرة من الإنتخابات الرئاسية، واختارت مرسي مكرهة لكي لا تختار أحد أعضاء الحكم السابق. وأكدت التزامها بمعاهدة كامب ديفيد والتزمت بها التزاماً صارماً يفوق التزام العهد الذي سبقها منافية لشعاراتها إبان حكم الرئيس مبارك، بل بالعكس أراحت اسرائيل من صواريخ غزة باتفاق تهدئة مهين بين حماس واسرائيل على حساب دماء الأبرياء من شعب فلسطين ولقمة عيشهم الكريم. وأخيراً استبقت الأحداث وطردت السفير السوري بينما السفير الإسرائيلي يعيش معززاً مكرماً في قاهرة المعز. كنا ننتظر منهم أن يعيدوا الى مصر الى دورها الريادي العربي والإسلامي والأفريقي والعالمي الذي فقدته.
متى يدرك الإخوان أنهم جمعية تعاونية لا ترقى الى اعتلاء سدة الحكم لتدير شئون دولة عربية كبرى كان يعول عليها عربياً واسلامياً وأفريقياً وتعاني اليوم سياسياً واقتصادياً ومعنوياً في ظل معادلات دولية وإقليمية معقدة، يبدو تسيير دفة الحكم والسياسة فيها كالسير على الحبل وبعيدة في مضامينها عن أخلاق الدين وشرائعه كل البعد.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت