منذ ثلاثة سنوات وأنا أشاهد وأسمع وأقرأ سيل من الأخبار والمعلومات المتداولة في وسائل الإعلام المصرية، وغير المصرية، ومنها الفلسطينية عن تدخلات فلسطينية سواء من قِبَلْ حكام غزة " حماس" أو من تيار فتحاوي على رأسه القيادي المفصول من حركة فتح " محمد دحلان" في الشأن المصري الداخلي، وحالة تجاذب شرسة بين اتهام وتحريض من الإعلام وبين نفي متواصل من الطرفين المتهمين بالتدخل.
هذه الدعاية امتدت لمواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات والتجمعات الشبابية، والاجتماعية والثقافية والسياسية...إلخ، وأصبحت جوهر ومحور الحديث والنقاشات بين الشعبين الفلسطيني والمصري، بل والعربي، بين من يؤكد ومن ينفي، من يهاجم ومن يدافع، أيّ بالمعنى حرب إعلامية ممنهجة وشرسة وحامية الوطيس، حيث يمرر كل فريق فيها أو يسرب بحبكة استخباراتية واضحة ما يخدم مصالحه وأهدافه، سواء من الطرف المصري أو الطرف الفلسطيني، خلف كل طرف ماكنة إعلام تمثل الثقب الأسود الذي يتم تسريب الفتنة منه لعامة الناس الذين يجدوا بها سبيلهم فيتلقفوها وكأنها مسلمات يتوجب الإيمان بها وتصديقها، وتداولها، لأن من يسربها ويطبخها ويصنعها، يُدرك أن شعوبنا العربية عامة تفتقد للقدرة التحليلية، واستخلاص الغث من السمن، شعوب تقودها ماكنة إعلامية احترافية ضمن حرب تحريكية هدامة لأخر أسلحة هذه الأمة، البناء والتلاحم الشعبي المجتمعي، من خلال حرب إعلامية تعتبر ضمن أساسيات وأبجديات الحروب الحديثة، وجوهر أسلحتها، وهي الحرب التي نعيش في أتونها ونخوضها منذ أن بدأت الحركة الصهيونية تعد عدتها للسيطرة على فلسطين، ورغم ذلك لم نستخلص العبّر، ولم نتعلم شيئًا، بل نزداد التصاقًا بالترويج للإشاعة، وتصديق بهاليل يتم تحريكهم بحرفية ومهنية، لتحقيق أهداف ومرامي إستراتيجية.
في الإعلام معركة دائرة ضد غزة، وصلت حدّ التحريض بالقتل، والطرد...إلخ، بما أنّ حكامها من " ألإخوان المسلمين"، وفي الإعلام الأخونجي معركة مضادة ضد " الدحلانيين" حسب المسمى الاصطلاحي الإعلامي الحديث، بما أن الخصم الأساسي الذي ترعاه دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقف في صف العداء للإخوان المسلمين ومشروعهم في المنطقة، ممّا يؤكد حقيقة المعركة وأنها ذات أبعاد دولية وإقليمية، ولكن هل من يفهم؟! فكل طرف له أدواته، وله وسائله، وله مخططاته، التي أستدركها أخيرًا التيار الوطني المصري، وكذلك التيار الوطني الفلسطيني، وبدأ كل تيار بقيادته حملة توعية لما يدور ويحدث في الوسائل الإعلامية التحريضية من الطرفين اللذان وجدا بالفلسطيني المادة الدسمة في اختلاق فتنة مجتمعية بين شعبين يتقاسمان الألم، التضحية، الدم، والجوار، والمصاهرة، ويشتركان بالعروبة، والدين، والقومية، والأمن...إلخ.
المعضلة هنا أنه ومنذ ثلاثة سنوات وهذه المعركة تمر بحالة متجددة باستمرار، كلّما هدأت حدوتة تبدأ حدوتة أخرى، واتهام هنا واتهام هناك، وبرغم سيل الاتهامات الكبيرة والخطيرة، لم يخرج أيّ طرف مصري رسمي يُعلن عن اعتقال فلسطيني واحد متهم بجرم أمني في مصر، أو يهدد الأمن المصري، أو عن مقتل فلسطيني واحد بأحداث مصر سواء في سيناء أو في الميادين العامة، أم أن الفلسطينيّين لديهم "طقية الأخفا"، أو ملائكة غير محسوسيين وملموسين؟ معركة كلَّ ما يتداول بها أخبار واتهامات يتم إسنادها إلى مصدر أو مصادر رفضت ذكر أسمائها، في حين أن الرئاسة المصرية سواء في عهد الرئيس المعزول "محمد مرسي"، أو بعد محمد مرسي وكذلك وزارة الداخلية المصرية، وأجهزة الاستخبارات المصرية لم يُعلن أي طرف منها عن وجود متهمين أو قتلى أو أدلة قاطعة بتدخل مباشر أو غير مباشر من فلسطينيي غزة أو خارج غزة، إذن ما هي الأسانيد والمرتكزات التي تستند عليها أبواق الفتنة في ترويج أكاذيبها؟ في الوقت الذي أكدت فيه كلَّ القوى والفصائل الفلسطينية بما فيها" حماس ودحلان" نفيها القطعي لأي تدخلات مباشرة أو غير مباشرة في الشأن المصري الداخلي، وكذلك التأكيد القطعي لمؤسسة الرئاسة الفلسطينية وعلى لسان الرئيس الفلسطيني" محمود عباس" عدة مرات أن الفلسطينيين في منأى عن أيّ تدخلات في الشؤون الداخلية العربية عامة، والمصرية خاصة.
الحدوتة لا تحتاج لذكاء، ولا تعتبر معقدة واستحالة فك لوغارتيماتها، بل هي أبسط مما نعتقد، الحدوتة هي حرب إعلامية موجهة بدقة ومبرمجة تستغل حالة الانقسام والتجاذب سواء في المجتمع المصري، أو في المجتمع الفلسطيني، حرب تصفية حسابات حزبية خبيثة تعزف على ور بساطة وبداهة وعفوية شعوبنا العربية الّتي عاشت عقود طويلة موجهة من قبل إعلام رسمي تجهيلي موجه غيب كلَّ مفاهيم الوعي والتحليل، واعتمد على لغة وسياسة التلقين فقط، وكذلك استغلال الآخرين للطاعة العمياء لأنصارها الّتي لا ترى أو تسمع أو تفكر سوى بما يملى عليها من أميرها أو مرشدها، ليغزوا بسمومهم عقول بسطاء شعوبنا وعفويتهم. والأغرب أنّ هناك بضعًا من الأنفار أشباه المثقفين أو ممن تم صناعتهم بمسميات مثقف وصحفي ومحلل وباحث... إلخ من المسميات في زمن المأجورين تحاول أنّ ترسخ وتأكد هذه الفتنة في عقول شعوبنا، بل وتمادت أكثر من خلال الزج بالشعب السوري في معركتهم القذرة في مصر.
إنَّ العلاقة بين فلسطين والدول العربية " الشعوب" عامة، ومصر خاصة علاقة تلاحم وترابط، علاقة شراكة، بالدم والمصير والجُرح الواحد، بل أنّ شعبنا يتألم ويتجرع الألم من أحوال الشعوب العربية، وخاصة أحوال الشقيقة الكبرى مصر الّتي لها في الوجدان الفلسطيني، بل وفي كلَّ فؤاد فلسطيني مكانة كبيرة، لا يضاهيها أيّ مكان لأيّ دولة أو شعب آخر للعديد من الاعتبارات الخاصة، فنجن يمكن لنا أنّ نكتب عن مصر، نحلل أوضاعها وأحداثها، نعبّر عن أمنياتنا لها، كما يمكن لكل فريق منا أن ينحاز أو يعلن تأييده النظري أو الأيديولوجي لفريق ما، لكن لا يمكن أنّ يصل الأمر لدرجة التدخل المباشر أو غير المباشر بأي وسيلة أو شكّل من ألأشكال، ولو سألنا أنفسنا وصارحنا ذواتنا جميعًا بلحظة صدق هل القيادات والأحزاب والقوى المصرية السياسية والثقافية والاجتماعية والبشرية والاقتصادية بحاجة لمساعدة من أحد؟ وهل الجيش المصري وأجهزة الاستخبارات المصرية يمكن أنّ تسمح لأيّ طرف خارجي بمحاولة التدخل بشؤون مصر الداخلية؟
الحقيقة جلية وواضحة، حملة التحريض الحالية هي ضمن برنامج دعائي يستهدف ضرب علاقات وأواصر الدم، والتضامن، والتعاضد، والتلاحم بين الشعوب العربية التي أثبتت أنها رغم كلَّ مدخلات الأنظمة السابقة، إلَّا أنها تهب في قضاياها هبة رجل واحد، وهو ما أكدته في تلقفها للثورة التونسية ضد نظام " زين العابدين بن علي" وثار الشعب المصري في ثورته المجيدة 25 يناير، وسار على هداه الشعب اليمني، وتفاعلت الشعوب العربية مع بعضها البعض لتلفظ الخوف وتهتف في ميادينها لحتمية إعادة الروح العربية، هذا التفاعل الذي أرعب وأزعج من يرتدعوا من القنبلة الديموغرافية العربية الّتي تهدد الكيان الصهيوني، وتهدد مصالحهم وأطماعهم في المنطقة لأنها تدرك أنّ الشعوب العربية هي الوحيدة القادرة على لجم مشروعهم الاستعماري وإفشاله، لذلك وجدوا بخلق فتنة بين الشعوب مدخل لهتك هذا التلاحم، كما فعلوا على المستوى السياسي مع الأنظمة، فحاولوا ولا زالوا يحاولوا لضرب البنى المجتمعية لأواصر الترابط بين الشعوب العربية، وربما القارئ لمعركة الشعبين الجزائري والمصري أثناء تصفيات كأس العالم 2010 يستدرك الكثير من الحقائق.
أنني على يقين بأنه لا يوجد طرف فلسطيني يمكن أنّ يفكر مجرد تفكير أنّ يمس السيادة المصرية، أو الأمن المصري أو يتمنى أنّ تغرق مصر في فوضى، بل كل أبناء الشعب الفلسطيني باختلاف انتماءاتهم وتياراتهم ومشاربهم يتأملوا المشهد المصري والألم يعتصرهم على حالة الانقسام الحالية في الشارع المصري، وفي قواه السيادية والسياسية، بل أنّ أحداث مصر سلبت اهتمامات شعبنا الفلسطيني عن قضايا رئيسية وعديدة مثل إضراب الأسرى في السجون الصهيونية، وكذلك من المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، والهموم اليومية، واعتداءات الاحتلال، وهو ما أغاظ المتربصون بالشعبين، فابتدعوا رفع صورة الرئيس المعزول "محمد مرسي" في باحة المسجد الأقصى لإدراكهم القيمة الدينية والمعنوية لهذا المسجد ورمزيته المقدسة في نفوس المسلمين.
" مصر" لا زالت تربض في كل بيت فلسطيني، وفي كلَّ فؤاد فلسطيني باختلاف مشاربهم الفكرية والأيديولوجية، لأن مصر هي الّتي تربطنا بها كباقي أمتنا العربية المصير الواحد...
" مصر" هي الّتي ترتسم في لوحة ذاكرتنا بمعارك جنودها في حرب 1948، والعدوان الثلاثي 1956، وحرب 1967، وحرب 1973، ومصر هي التي رغم معاهدة كامب ديفيد 1979 لم تطبع بأي مستوى شعبي مع الكيان الصهيوني، وجسد الفنان عادل إمام ذلك في فيلمه الوطني السفارة في العمارة حقيقة.
د. سامي محمد الأخرس
16 يوليو" تموز" 2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت