لا زلنا منذ إقرار البرنامج المرحلي عام 1974 نتنازع ونتصارع حول رؤية صراعنا مع الكيان الصهيوني، حيث غابت عنا الرؤية الإستراتيجية الوطنية الموحدة لصياغة الحلول اللازمة للتحرير، وكلَّ طرف سياسي يصيغ رؤيته السياسية بناًء على رؤيته لحدود الصراع مع العدو، وآليات رسم هذه الحدود، وبناًء عليه وضع الحلول وصاغها. وهنا لدينا عدة رؤى أو صياغات كلًا منها يعتمد على القراءة الأيديولوجية للصراع، فأصبح لدينا رؤية تؤمن بالتعايش والسلام مع القائم ضمن حدود وإطار الدولة الفلسطينية لحدود عام 1967، وهناك رؤية أخرى لا زالت ترى بالدولة الديمقراطية الواحدة هوية إستراتيجية لحل الصراع جذريًا، وهناك رؤية ثالثة يتجاذبها طرفان ترى بفلسطين دولة واحدة ذات صبغة وهوية إسلامية عقائدية محضة، لا يملك أحد الحياد عن هذه النظرة العقائدية، وهي رؤية لها فهمها بين منظورين، منظور خضع وانخرط بما تمخضت عنه أوسلو عام 1994 بعدما حاول جاهدًا بإفشالها، وأصبح جزء من سلطتها وحركتها عليه ما عليها، وله ما لها، محاولًا خلق انسجام بين الفهم للميثاق العقائدي والموثوق السياسي، إلَّا أنه فشل حتى راهن اللحظة في مزج الفهمين ليستنكف في بقعة جغرافية صغيرة تزداد ضغطًا عليه نتيجة سياساته الشعبية، وانهيار المشروع الداعم له في مصر بعد ثورة 30 يونيو 2013، وهو ما خلط الأوراق وأربك الحسابات، أما الطرف الآخر فهو ينأى بنفسه عن تمخضات أوسلو ولا زال يطرح إستراتيجيته العقائدية المستوحاة من فهمة ورؤيته العقائدية لأرض المحشر والمنشر.
هذه الرؤى الثلاث لا زالت متباعدة في ظلَّ حالة التجاذب الداخلي المرتبكة والمستسلمة لسياسة الأمر الواقع الّتي فرضها الانقسام عام 2007، فأصبح لدينا جبهة داخلية هشة لا تقوى على مقاومة الفيروسات والجراثيم الّتي تهاجم جسدها فاقد المناعة، والذي لم يعد يمتلك أي مقومات للصمود، سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، جغرافيًا، أي كيان منهك لا ملامح أو معالم له.
في ظلَّ هذه الحالة المرتبكة والغامضة، وما يحيط بها من متغيرات متسارعه في المنطقة، وافتقاد الجبهة الرافضة لبعض أسانيدها الإقليمية، وتزامن هذه الحالة مع جولات المبعوث الأمريكي " جون كيري" للمنطقة وخاصة لـِ" إسرائيل" ورام الله، بدأت ملامح بلورة اتفاق مبدأي على عودة المفاوضات المجمدة بين الفلسطينيّين و"إسرائيل"، دون إعلان الموافقة الفلسطينية النهائية الّتي تضع بعض الاشتراطات أو التساؤلات الّتي تحمل محاذير معينة فيما يتعلق بثلاث مسائل هي: الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، الاستيطان، الأسرى القدامى أي أسرى ما قبل عام 1994، وكذلك رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في آخر تصريحاته لمبدأ دولة فلسطينية في حدود 1967. وهو ما يفرض سؤال في ذهن جمهور الشعب الفلسطيني، ما جدوى المفاوضات دون هذه الأسس المركزية؟
كما أسلفت إن لم تكن هناك إستراتيجية وطنية موحدة ذات خطوط عريضة ورئيسية وثابتة، تبدأ على قاعدتها المفاوضات فإن الذهاب للطاولة المستديرة هو عملية ترميم لمخططات " إسرائيل" في ظلَّ ما يحيط بها من متغيرات، وإضعاف للروح الثورية الّتي بدأت تنبعث في الشعوب العربية بعد ما يسمى ثوّرات الرّبيع العربي عام 2010 والذي لم يحقق شيئًا حتى راهن اللحظة، وكذلك تزيد من حدة الأزمة في الواقع الفلسطيني، فحماس الّتي تسيطر على غزة لن تزحزح مواقفها بل ستزيد تعنت فيما يتعلق بملف المصالحة الداخلية إن تم استبعادها من المشهد السياسي المستقبلي أو المشاركة في أي مفاوضات خاصة وأنها تطرح نفسها بأنها على رأس المشهد السياسي الفلسطيني منذ انتخابات عام 2006، وجزء من مكونات المطبخ السياسي الفلسطيني، وربما يعزز من تعنتها في هذا الشأن سيطرتها الجيوسياسية على غزة منذ عام 2007.
أما المكونات الأخرى من النسيج السياسي الفلسطيني فهي لا زالت متشرذمة، وغير قادرة على تحديد بوصلتها العملية من المفاوضات والحل السياسي، أو من المقاومة، وكلا الجانبين لديها لا زال معطلًا على الأرض أو يخضع لفعل اللحظة ورد الفعل فقط، في حين أنها تفتقد لي برنامج سياسي في هذا الصدد، وكذلك تفتقد للفعل المقاوم المستمر بغية التحرير، إذن ما هي الحلول في ظلَّ هذه الواقعية السياسية؟
لكي نبحث عن حلول، وإجابات علينا التحليل والبحث فيما هو موجود وقائم، وما يتم قراءته من الرؤى الثلاث الّتي تناولتها سابقًأ، إضافة لها حالة الشرذمة للأوضاع الفلسطينية الداخلية، والانقسام الذي نعاني منه على صعيد أوضاعنا المحلية الداخلية، وحالة التفكك الّتي عليها قوانا الأساسية داخليًا سواء فتح الّتي أصبحت تيارين واضحين، وحماس كذلك ووضوح التباين السياسي في تيارين بداخلها. وكذلك الحالة التي يعاني منها شعبنا الفلسطيني، حيث أصبح شعب تتجاذبه الاستقطابات الحزبية أكثر ممّا يستقطبه الانتماء الوطني.
عليه فإن القيادة الفلسطينية ستذهب للمفاوضات وهي مجردة من الدعم الوطني الفصائلي والحزبي، وكذلك من الدعم الشعبي الذي كان في السابق أبان أوسلو عام 1993 وخاصة من عناصر حركة فتح، وأيضًا غياب إستراتيجية أو معالم واضحة لمستقبل المفاوضات، والأهم عدم حدوث أي تحوّل أو تغيّير في مواقف" إسرائيل" من القضايا الأساسية الّتي جُمدت من أجلها المفاوضات السابقة، ورفض ياسر عرفات التنازل عنها في منتجع كامب ديفيد بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
إذن فالجانب الإسرائيلي هو الذي سيحصد نتائج هذه المفاوضات، وسيلعب على عامل الزمن الذي يتقنه جيدًا، ويخرج بصورة الملك الطاهر والمحب للسلام أمام الرأي العام العالمي، في حين أننا سنفقد الكثير في حال بدء أي مفاوضات أو جولات تفاوضية جديدة بدون ملامح أو رؤى أو ضمانات مؤكدة من رعاة أقوياء ممثلين في" الولايات المتحدة الأمريكية – روسيا- الصين- الاتحاد الأوروبي- هيئة الأمم المتحدة" تؤكد على أقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وتضمن حق العودة للاجئين، وتحسم ملف الأسرى نهائيًا، ما دون ذلك فإن أي جولة تفاوضية هي بمثابة خنجر مسموم آخر يغرس في جسدنا الفلسطيني المحتضر منذ سبعة أعوام.
وفي ظلَّ هذه الحالة اللامفهومة واللاواعية وفي ضوء كل ما سبق ودون ضمانات وتطمينات حول الثوابت ما هي رؤية القيادة الفلسطينية لحل القضية الداخلية والانقسام بين شطري الوطن، وكيف ستتم معالجته، وهل يتم إشراك حركة حماس في الحل النهائي؟
د. سامي محمد الأخرس
20 يوليو" تموز" 2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت