رفقا بشباب الأمة

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


تتميز المجتمعات العربية بتفوق نسبة الشباب (ذكوراً وإناثاً) بدرجة عالية على نسب الفئات العمرية الأخرى، بعكس المجتمعات الغربية التي تتفوق فيها نسبة كبار السن على نسب الفئات العمرية الأخرى، لذلك سميت أوروبا بالقارة العجوز، وتم رفع سن التقاعد الى 65 عاماً وذلك لصعوبة إحلال أفواج العمالة التي بلغت سن التقاعد بالعمالة الناشئة الشابة نظراً لقلتها. وتلك ميزة ايجابية تتميز بها المجتمعات العربية على الغربية ويفترض أن تكون رافعة من روافع التنمية والنهضة والتقدم والتطور، وتمنح القوة الدفاعية والمنعة الأمنية، وتؤدي الى الإكتفاء الذاتي شريطة توظيفها للمصلحة الوطنية. لأن العناصر الشابة في المجتمعات هي الطاقة الكامنة فيها والتي تدفع بحركة التنمية والتطور الى الأمام وتزيد من تسارعها وحيويتها في السباقات والصراعات الدولية للوصول بمجتمعاتها الى الصفوف الرائدة المتقدمة.
ولكن وبكل أسف لم توظف هذه الميزة للصالح العام. ولم يأخذ الشباب في أمتنا حقهم في ممارسة دورهم المنوط بهم، ويتم تغييبهم عن كل ساحات العمل الوطني، وتعطيل دورهم في الدفع بعجلة التنمية والتطور في كل صفوف العمل الوطني وخاصة في صف القيادة حيث لا يوجد لهم مقعد، ويتم ظلمهم منذ الطفولة بعدم تهيئتهم تربوياً وغذائياً وصحياً وتعليمياً وتثقيفياً، وينمون ويترعرعون مع تلك النواقص التي تعيش في دواخلهم حيث تتحول الى عقد نفسية تعشعش في نفوسهم عند الكبر، وتبدأ معهم المعاناة من تلك الفراغات التربوية والتعليمية كالشعور بالنقص وفقدان الثقة بالنفس، والتردد وعدم القدرة على اتخاذ القرار. وهذه العوامل بجانب حب وتعلق كبار السن بالسلطة والتسلط والدكتاتورية من رأس الهرم السلطوي الى الدكتاتورية الأسرية، وتفشي البيروقراطية والتمسك بالمقعد الوظيفي والمهني حتى الموت، وذلك لإنعدام التكافل الإجتماعي والمجتمعي الذي يدعو اليه الإسلام، وتلك الظواهر والعوامل تتغلغل في مجتمعاتنا، وكل هذه العوامل متحالفة أدت الى شيخوخة الأمة وهزالها، بعكس واقعها الديمغرافي السكاني الذي يتميز بغزارة العناصر الشابة وتفوقها عدداً. فأصبحنا نحن بحق القارة العجوز، وهم القارة الشابة على الرغم من كثرة شبابنا وقلة شبابهم. وتلك حالة وآفةٌ مستفحلة وشاذة عن المنطق ومغايرة للواقع، ولا يستوعبها العقل.
لذلك رفقاً بشباب هذه الأمة، وحذار ثم حذار من تحول طاقات الشباب الكامنة والمكبوتة بدواخلهم والمعطلة عن العمل والإنتاج الى حمم من البراكين والقنابل المتفجرة والتي ستشعل ثورة غاضبة على كل مكونات الأمة وتفقدها التوازن والأمن والأمان. وحينها لا يمكن السيطرة على حرائقها ويصعب التحكم بإتجاهاتها وتوجهاتها وتوجيهها نحو الأفضل.
تنكمش فرص العمل في مجتمعاتنا الإستهلاكية، وبالمقابل تتزايد أعداد الخريجين في كل التخصصات الدراسية، ويتخرج الشاب متحمساً ومدفوعاً بطاقة وحيوية الشباب، وقد حملته الأحلام والأماني والتمنيات الى وادٍ تكسوه خضرة الربيع ويظنه مدخلاً الى مرحلة جديدة، يحقق فيها تلك الأماني التي كانت تدفعه للإجتهاد والعمل الدؤوب للحصول على مؤهل علمي يفرش له طريق الحياة بالسجاد محفوفاً بالورود والأزهار. ويبدأ رحلة البحث عن الذات في ميادين وحقول العمل والإنتاج.
وفي هذه الرحلة الشاقة الطويلة وإن عثر الشاب على فرصة عمل يُصدم مرة ومرة ومراراً، ويصاب بخيبة أمل ربما تمتد معه طويلاً حتى تصل الى مرحلة الإدمان وفقدان الشعور المرافق للإحباط لكي يعيش متناسياً لواقعه.
الصدمة الآولى هي البعد والهوة السحيقة ما بين موضوع التخصص والمساقات الجامعية التي حصل عليها وبين مجالات العمل المتاحة في مجتمعاتنا العربية الإستهلاكية وخاصة في تخصصات العلوم بتشعباتها وتطبيقاتها (الفيزيائية والرياضية والكيميائية والحيوية)، وتخصصات الهندسة بفروعها. وحتى تخصصات التاريخ والجغرافيا المزورة والتي تحرفها الأنظمة الحاكمة لتصب في صالحها. وهذه الصدمة يمكن استيعابها وامتصاصها مع مرور الزمن، وتتناسب سرعة استيعابها وتجاوزها طردياً مع قرب مجال العمل من موضوع التخصص ومع ما يقدمه صاحب العمل من تدريب وتأهيل لموظفيه لكي يتقنوا عملهم ليعود عليه بمزيد من الأرباح. ومع استعداد الخريج لتعلم شيئاً جديداً ومدى حبه واقتناعه بعمله الجديد. وكذلك مدى حاجته لفرصة عمل مهما كانت بعيدة عن التخصص لكي يوفر لنفسه لقمة العيش ويكتفي ذاتياً دون حاجة لمن كان يعوله حتى تُفرج من الله سبحانه وتعالى.
الصدمة الثانية هي إختلال صورة المجتمع في ذاكرة أحلام اليقظة للشاب الخريج، فالطالب أثناء تلقيه العلم على مقاعد الدراسة يقيم علاقاته الإجتماعية على أسس من المحبة والإلفة على قاعدة "الأرواح جنودٌ مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". ويكون حراً في اختيار الصحبة دون ضغوط عليه، بعيداً عن المصالح وما ينتج عنها من نفاق ورياء وكذب. وعندما ينخرط بالعمل يكتشف أن العلاقات المجتمعية تقوم في مجملها أولاً على أسس من المصالح المتبادلة، فيكتشف زيف المجتمع ونفاقه وفساده الخلقي، وتختل صورته في ذهنه فيبدأ بفقدان الثقة بمن حوله، ويشق طريقاً قاسياً وصعباً على النفس في سبيل تطويع نفسه لمجاراة هذا الواقع المرير مما يحدث بداخله ردة فعل سلبية تنتهي بفقدان ثقته بنفسه، وتنعكس عليه سلباً إن لم يستوعب الدرس ويتعلم على دخول الأنفاق والدهاليز، وكيفية الخروج منها بلباقة تخلو من النفاق. فإن تمسك بالمثالية ضاع، وإن تخلى عنها انحرف وكلا الطريقين لا تحمد عقباهما.
الصدمة الثالثة هي إختلال الموازين في مقاييس المجتمع إذ يكتشف الشاب الخريج اختلاف المكاييل بين الناس، فمن كان يقل عنه ذكاءً وتحصيلاً علمياً يتقدم عليه في مجال العمل اعتماداً على الحظ تارة أو على المحسوبية والواسطة تارات أخرى، ومن سلك من أقرانه تخصصاً تنافسياً يقل عن تخصصه قد شق طريقاً ميسوراً وتقدم عليه مادياً ومعنوياً. ومثال ذلك من درس المحاسبة (وهذا ليس تقليلاً من شأن هذا التخصص الهام) لم يعاني في ايجاد فرصة عمل كما يعاني مثلاً خريج الهندسة الصناعية، وأصبح الفارق الإجتماعي بينهما واسعاً نتيجة لمحدودية فرص الهندسة الصناعية في مجتمعاتنا الإستهلاكية. فيحدث في نفس الشاب ردة فعل معاكسة تدخله في حالة من اليأس والإحباط والندم على ما فات والحرج من أصحابه الذين كانوا يقلون عنه ذكاءً وتفوقوا عليه في مجالات العمل، وتلك معضلة نفسية ثقيلة.ولكن من آمن بالله سيتجاوزها ويسعى الى الأفضل "رزقكم في السماء وما توعدون"، فالرزق مكتوب مع المرء منذ نشوئه في رحم أمه.
الصدمة الرابعة هي تدني مستويات الأداء الوظيفي والمهني، حيث تسود البيروقراطية والأساليب الكلاسيكية القديمة الملتوية والمتعرجة في العمل، والتمسك بالبروتوكولات والألقاب التي عفا عليها الزمن في طريقة التخاطب والمراسلات، وعدم اللحاق بالتطور التقني المتسارع في هذا العالم، وغياب النظام وانتشار الفوضى وعدم الإلتزام بالقوانين والأخلاق والذوق، والوصول الى الأهداف من أبعد الطرق الإلتفافية غير المباشرة وتغييب الطرق القصيرة المباشرة التي توصل للأهداف من العمل بسرعة في توفير للوقت والجهد.
الصدمة الخامسة الدكتاتورية الوظيفية والمهنية يعاني من وجد فرصة عمل من دكتاتورية المسئول وتحكمه فيه وكأنه يعمل لديه، كما ويعاني من عدم تعليمه فيشعر وكأنه جسم غريب انغرس في جسد هذه المنشأة التي يعمل بها تتناوشه السهام والرماح من كل حدب وصوب، فإن أحسن لا يُكافأ وإن أخطأ يُحاسب حساباً عسيراً بأقصى العقوبات ويُفضح وكأنه ارتكب خيانة عظمى، ففي أول يوم جاء فيه للمقابلة، يحاول المسئول أن يتجاهل موعد المقابلة، ويضعه في حالة إنتظار متعمدة ليشعره بأهميته، وبعد طول انتظار يقابله وكأنه في حلبة مصارعة فيبدو مقطب الجبين، يرسم تكشيرة لعلها تجلب له الهيبة وترهب نفس مرؤوسه الجديد. ومنهم من يتعمد الصراخ والصياح في سكرتيرته أو عامل القهوة والشاي أمام الموظف الجديد ليشعره بهيبته وسلطانه وصرامته.
والصدمة السادسة وليست الأخيرة هي عدم وجود فرصة عمل للخريج بغض النظر عن تخصصه، فتلك صدمة تتكاثر وتتوالد صدمات وتتشعب وتنعكس سلباً على المجتمع برمته، ويعاني منها المجتمع إذ تولد أمراضاً نفسية وإجتماعية، فمن الخريجين من يصاب باليأس والإحباط والإكتئاب ويصبح عالة على المجتمع، ومنهم من يتحول الى حاقد على المجتمع، فيقترف الجرائم مثل السرقات والقتل والنهب والسلب والإختطاف، وتشيع فاحشة الزنا والإتجار بالمحرمات، ومن العاطلين عن العمل من يسلك طرق الإرهاب فينخرط في تنظيمات متعصبة متطرفة دون قناعة بفكرها ونهجها، فقط لأنها توفر له لقمة العيش من أجل أن يحقق مصالحها الخاصة فيتحول الى عدو للمجتمع من داخله.
من أجل هذا كله إحذروا انتفاضة الشباب وغضبتهم وفقدانهم الثقة بأمتهم وبمجتمعاتهم وبأنفسهم. لقد طال صبرهم ونضجت البراكين بدواخلهم من شدة القهر والغليان، فاحذروا لحظة الإنفجار لأنها ستدخل الأمة في دوامة العنف والعنف المضاد، وها هي التجارب أمامنا واضحة للعيان، في سوريا في ليبيا في العراق في مصر واليمن والحبل على الجرار. ودرهم وقاية خير من قنطار علاج.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت