تسعة وتسعون نعجة ونعجةنظرية المتأدلجين عقائدياً وفكرياً

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


الأدلجة الفكرية: هي تأطير المخزون الفكري للفرد المتأدلج بمنظومة نظريات (اجتماعية وسياسية وإقتصادية وعلمية) تتحكم في استخدام العقل وتشكل له البوصلة التي توجهه في معالجة الأمور الحياتية فتنعكس على قراراته وتصرفاته سواءً كانت هذه التصرفات تحتمل الخطأ أو الصواب دون تفكير بالنتائج والعواقب، وهذه المنظومة من النظريات سواءً كانت سماوية محرفة نصاً أو محرفة عن مواضعها ومناسباتها، أو كانت وضعية إنسانية وضعت لزمانها الماضي ولا تصلح في كلها للواقع الجاري المضارع، هذه المنظومة من النظريات جميعها لا تخضع في عقل المتأدلج الفرد للمراجعة والتفكر والتأمل والتقييم والتقويم الا برأي وقرار قيادة الجماعة (الحزب) يصدر في نظريات جديدة عن رأس الهرم القيادي، وهو إما أن يكون زعيماً دينياً أو زعيماً وطنياً أو مفكراً أو عالماً. والأدلجة الفكرية سواءً كانت عقائدية سماوية دون وعي لمفاهيمها وحصرها في معانيها دون القياس عليها والإستنباط من مدلولاتها،أو فكرية وضعية دون إخضاعها للتقييم والتقويم لتتناسب مع المرحلة تعطل العقل عن البحث والتمحيص، حيث تُشرب النظريات في عقل المنتسب للحزب دون نقاش كما أُشرب العجل في عقول اليهود.فهي تلغي الحرية الشخصية وتربط الفرد بالجماعة في مصيره ومسار حياته حتى وإن تعارضت مصالحه مع مصلحة الجماعة فيتحمل الضرر أو التهلكة مكرها عليهما، والأدلجة الفكرية تتنافى مع التطور والتحديث والتجديد والتغيير بما يتناسب مع روح العصر وما يتناسب مع مضامين الرسالات السماوية جمعاء التي دعت العقل للتفكر والتأمل والإبداع والإختراع ودعت الى التغير والتغيير المستمر تماشياً مع الزمن الذي لا يتوقف عن الدوران.والتي جعلت الحساب يوم القيامة فردياً، إذ لا تُسأل الجماعة عن عمل الفرد ولكن يُسأل الفرد عن عمله في إطار الجماعة. وهذا يتنافى مع التحزب في العقيدة والدين.
قال تعالى في كتابه العزيز في قصة رجلين اختلفا وتسورا محراب النبي داود عليه الصلاة والسلام ودخلا عليه ليحكم بينهما، فقال أحدهما كما ورد في الآية "إن هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب". أكفلنيها أي تنازل عنها لصالحي، وعزني أي غلبني في حجته وبيانه وإقناع خطابه.
لسنا هنا في هذا المقام في معرض تفسير للآية أو في بيان لسبب نزولها، حيث اختلف المفسرون ودخلت عليها الإسرائيليات، وفي النهاية نقول الله أعلم في تفسيرها. ما يهمنا هنا الإستفادة من سياقها ومعناها الحرفي والظاهري في مواقع أخرى نعيشها اليوم غير التي وقعت فيها، دون النظر لمدلولاتها القرآنية والخوض في خلفيات نزولها ومناسبتها، فهي في مفهومها الظاهري تمثل النظرية التي يؤمن بها ويطبقها بحذافيرها الأشخاص المتحزبون المتأدلجون عقائدياً سماوياً أو فكرياً وضعياً. فيصبحون أسرى لهذه النظرية عندما يتعلق الأمر في تعاملهم ونقاشهم وحوارهم واقتسامهم الحياة مع الآخرين من أبناء مجتمعهم الذي يعيشون بين ظهرانيه. يتمترسون حول رأيهم ولا يحيدون عنه ويبررون هذا التعصب الفكري في الحوار بنصوص نزلت في رسالات سماوية في مناسبات محددة تعالج واقعاً قديماً مختلفاً ولا تنطبق على الواقع الحالي، أو يدافعون بمقولة أو رأي إمام أو مرشدٍ أو شيخٍ أو وليّ نصبوه ظلاً لله على الأرض، يقبلون أياديه ويأتمرون بأوامره الصادرة عن مزاجه وأهوائه الإنسانية الفطرية غير المعصومة عن الخطأ، حيث الغرائز والمغريات الدنيوية والنفس البشرية بفطرتها أمارة بالسوء.
وخير أمثلة على ذلك الأحزاب الدينية العقائدية التي تتبنى فكراً سماوياً من نصوص الرسالات السماوية سواءً كان ثابتاً نصاً يحرفونه عن مواضعه أو كان محرفاً كما حدث في رسالات سماوية سبقت القرآن، ليتوائم النص مع الهوى البشري، أو يوظف النص الثابت للمصلحة الخاصة، والأحزاب الأيديولوجية التي تتبنى فكراً وضعياً بشرياً من زعماء ومفكرين وفلاسفة اجتهدوا في عصرهم فأصابوا في جانب وأخطأوا في جوانب واتبعوهم في صوابهم وأخطائهم دون نقاش أو تمحيص. وأسقطوا نظريات ماضٍ بائدٍ مضى بخيره وشره على واقع حاضرٍ جارٍ يختلف في كل جوانبه. فأوقفوا ساعة الزمان عن الدوران في عقولهم بينما هي لا تتوقف عن الدوران في حقيقة الأمر. فأصبحنا كالأطرش بالزفة، العالم يتقدم ويسير قدماً ونحن في ركابه نائمون متوقفون عن المسير. فحالنا كحال راكب الباص أو الطائرة، يجري به سريعاً وهو جالس متوقف في مكانه على الكرسي
هذه النظرية (تسعة وتسعون نعجة ونعجة) تفسر فشل الإخوان المسلمين في الإدارة المدنية وحكم المجتمعات عندما اعتلوا كرسي الحكم، فعندما وصلوا للسلطة في دول عربية، إبتداءً من فلسطين ومروراً بتونس ومصر، قالوا لغيرهم من أطياف المجتمع وألوانه المتعددة، نحن الآن نملك تسعاً وتسعين نعجة وأنتم لكم نعجة واحدة، فتنازلوا لنا عن نعجتكم لنحصل على مئة بالمئة من السلطات، نتحكم بكم كما نشاء، فإما الكل أو لا شيء، وفي النهاية وبعد مخاض عسير وطويل ومكلف سيحصلون على لا شيء بعد أن جربتهم المجتمعات العربية التي خدعت بشعاراتهم واكتشفت زيفها وهشاشتها. وهذا ما قدمته أيديهم، ولم يظلمهم الناس الذين انتخبوهم ووضعوا ثقتهم بهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بهذه العقلية المتقوقعة عن باقي المجتمع والتي تريده مسيراً بفكرهم لا مخيراً.
وهذه النظرية تفسر فشل حكم الأحزاب الأيدلوجية في الدول العربية كحزب البعث في سوريا مثلاً حيث نص الدستور على أن الجزب هو الوحيد الحاكم في البلاد واستثنى بقية الأطياف من المجتمع، فانحصرت كل السلطات في أيدي جماعة الحزب، فإن لم تكن من حزبهم فلن تصل لموقع المسئولية، ولن تحظى بفرصة تعليمية ووظيفية مناسبة لك، رغم الكفاءة التي تؤهلك لذلك، إذ سيكون انتماء الشخص للحزب هو الفيصل بالإختيار بغض النظر عن الكفاءة والمقدرة.
وهذا دعا الكثير من المجتمع للإنتماء للأحزاب دون قناعة منهم بفكرهم ونهجهم، ولكن طمعاً في الحصول على امتيازات من أجل حياة كريمة كالحصول على فرصة تعليمية أو وظيفة مرموقة أو مساعدة مالية أو الوصول الى مركز يمنح الشخص سلطة ونفوذاً من خلال الحزب. فأصبح النفاق درباً يسلكه الناس مكرهين عليه لكي يستطيعوا العيش.
خلق الناس متنوعين في ألوانهم وفكرهم وألسنتهم ولهجاتهم ونسبهم فكانوا شعوباً وقبائل من أجل التعارف والتآلف والتعاون، فالتنوع فطرة الله في خلقه، لذلك لا يمكن لطيف أو لون واحد أن يستوي في كرسي الحكم دون مشاركة لبقية الأطياف. فلا عجب إن فشل الحزبيون الأيدلوجيون في إدارة المجتمعات حتى وإن وصلوا للحكم بالخداع وحكموا بالقمع والبطش واستمروا ردهاً من الزمان، ففسوف ينكشف أمرهم للناس وتلفظهم المجتمعات دون رجعة.

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
31/7/2013 م

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت