جَدَلِية الثورات وعَرَضِية الاختطاف

بقلم: فهمي شراب


في مستهل حديثنا عن الثورات العربية وطبيعة دول المشرق العربي، من المفيد جدا التأكيد على أن مجتمعاتنا العربية ما زالت أرضها لا تنبت ديمقراطية ، وذلك لسببين أولاهما: فقدان التنشئة السياسية السليمة بفعل ترسب قيم أنظمة شمولية عبر عدة عقود سابقة، والناتج عنها فكرة "عدم تقبل الآخر"، وبالتالي عدم تقبل نتائج الانتخابات لو جاءت على غير هوى من تعود على مواقع السلطة ، ثانيهما: ابتلاء دول المشرق باهتمام الغرب الذي ما زال طامعا في خيراتها المتمثلة في البترول والغاز، وممراتها الدولية ، ومواردها المائية، وموقعها الاستراتيجي ، وضمان أمن "إسرائيل" التي تعتبر "دولة حاجزة" و "دولة وظيفية" ورأس حربة للمشروع الغربي في المنطقة، وما تقدمه بعض الدول الاقليمية الفاعلة للدول العظمى، اضافة لما يمثله الاسلام كدين حضاري من اهمية كبيرة ومحرك روحي لدى الشعوب، حيث تم استهدافه بعد زوال خطر الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي عام 1989 وبعد تزايد تأثير نظرية "صراع الحضارات" وظهور تأثير اليمينيين المتطرفين في الغرب والولايات المتحدة تحديدا ،كل ذلك جعل الدول العربية التي شهدت ثورات محل اهتمام وتدخل كبيرين،تلك العوامل جعلت الثورات التي ظهرت بفعل عفوي وإرادة شعبية حقيقية في معركة غير متكافئة أحيانا مع "الثورات المضادة" المدعومة من الغرب كما حصل مؤخرا في مصر.
وبرغم ذلك كله، نقول باطمئنان، انه الآن، وفي العقد الثاني من الالفية الثالثة تغيرت المفاهيم والموازين، وبات يُقرأ جيداً أن التاريخ لا يعود للوراء، حتى لو تعثرت بعض الثورات عاما او عامين فذلك لا يعتبر شيئا يُذكر في عُمر الشعوب والحضارات، ومن المنظور جيدا ان دول المشرق العربي " الشرق الاوسط" باتت تتقدم بخطا حثيثة، تسابق فيها قياداتها وتحدياتها، وتسابق الزمن نحو قيادة نفسها كما تريد وليس كما يراد لها. وتسعى جاهدة لانتزاع حقها في تقرير شئونها المصيرية لدولها، حتى رغم تعثر بعض الثورات، ومما لا يمكن لأي عين أن تغفله، أن جمهور الوطن العربي أصبح مشاركا في صناعة الأحداث على مسرح الحياة السياسية وليس فقط مجرد مشاهد، أو شاهد زور، وهذا الطرح يستند في سلامة منطقه على إفرازات التقدم المعرفي الهائل الحاصل هذه الايام، والثورات العلمية المستمرة في تكنولوجيا التواصل والاتصالات السريعة وتكنولوجيا المعلومات، حيث بات ما يحدث مثلا في غزة له ارتدادات سريعة في الضفة وداخل الخط الاخضر، وما يحدث في مصر يؤثر مباشرة على فلسطين، وما يحدث في ميانمار يمس جميع الدول الاسلامية. هذا الايقاع السريع في نقل المشاهد و ما يحدث اثناء الصراعات والازمات اختلف عن العقود السابقة، حيث لم تكن تلك التكنولوجيا حاضرة عندما ارتُكبت مذابح سربرنيتسيا ضمن مسلسل التطهير العرقي في البوسنة والهرسك عام 1995، والجرائم التي ارتكبها الصرب والجبل الاسود ضد مسلمي اوروبا الشرقية من الالبان وسكان كوسوفا.
أو الجرائم التي ارتكبها القائد العسكري التشيلي في أمريكا اللاتينية " اوغسطو بيونشيه" المدعوم من الولايات المتحدة عام 1973عندما انقلب على الرئيس اليساري المنتخب ديمقراطيا "سيلفادور الليندي"وراح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، فمثل تلك الأحداث لن تتكرر. وقد اختلف الزمان كثيرا.
ختاما، إن وقوع حوادث اختطاف لثورات مرة أخرى بفعل قوى الدولة العميقة وأركانها ليس نهاية المشهد، وهو حدث عَرَضي و طبيعي في جدلية الثورات التي تتضمن شد وجذب من القوى المتصارعة على السلطة، حيث مع بداية الثورات– التي لم تكن لها قيادة موحدة- تم التخلص من رأس النظام الشمولي الفاسد ولم يتم التخلص من الجسد، بدعوى الاحتكام لآليات الديمقراطية و للقوانين المدنية، رغم أن الثورة كان من المفترض أن يتبعها محاكم ثورية لكي تتخلص من أجزاء هذا الجسد الذي يتمثل في قوى الدولة العميقة، ولكن في النهاية فان فرحة أنصار الدولة العميقة الخاطفين للدولة في الغالب لا تدوم كثيرا. إن الشعوب لن تلبث وقتا كثيرا لاسترجاع حقها في التمثيل السياسي والعودة للحكم أو على الأقل المشاركة بثقلها التمثيلي من خلال اقرب فرصة ممكنة لعملية انتخابات، وذلك لاسترجاع قيم الثورة التي تتطابق فيها الارادة الشعبية تماما مع القيم السياسية الخارجية والمواقف والتوجهات الأخلاقية التي تفرض عليها تبني مفهوم حسن الجوار، ولعب دور إقليمي فاعل يميز بين الصديق والعدو، بعيدا عن التجاذبات الدولية، والتدخل الغربي الذي بات يلعب على المتناقضات، محاولا تحقيق أقصى استفادة ممكنة غير عابئا بعدد الضحايا التي تسقط في معارك الثورة والثورة المضادة.

فلسطين
*دكتوراه علاقات دولية

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت