الإستقصاء للأخر في زمن الديمقراطية

بقلم: آمال أبو خديجة


ذاقت الشعوب العربية الويلات لسنوات عديدة حيث وقعت جميعها تحت الإحتلال البريطاني والفرنسي كما سبقها عدوان التتار والمغول وغيرهم ممن هاجموا البلاد العربية وطمعوا في خيراتها وثرواتها وحاربوا ثقافتها وأرادوا إلغاء عقيدتها وهدم وحدتها وتدمير كيانها ومستقبل أجيالها .
وبعد أن تحررت البلاد العربية باستثناء فلسطين من نير الإحتلال الأخير لها وبدأت تشكل قوتها وتبني حكوماتها وتؤسس جيوشها وبدأ المواطن العربي يشعر أن له وجود وكيان يستطيع أن يتمتع به بحرية وأن ينتمي له دون شعور بالإغتراب والتبعية للآخر، ففي نفس الوقت بقي المواطن العربي لا يعي الكثير من الحقوق والمفاهيم التي يحتاج إليها في ظل دولته وتحت رعاية سلطة الحكم فيها مما إعتاد أن يكون تابعا للحكم لا يؤدي دوره في إقرار المصير وإتخاذ القرار وبناء السياسات واقتصر ذلك على أصحاب الحظوة من السلطان والحكم وفي أغلبها سيطر عليها إما عائلات قبلية بموافقة غربية أو بنظام جمهوري رئاسي يدوم إلى ما يشاء الله دون حق الإنتخاب أو تحقيق الفوز المطلق مسبقاً ليعود نفس رئيس الجمهورية بنسبة 100% لأن الشعب بكل أطيافة قد أقر بتلك النسبة .
إستمرت الشعوب العربية ترضى بذلك الخنوع والضعف في أجواء من الجهل والضعف العلمي وقلة التقدم الحضاري والتطوير رغم كثرة الموارد والثورات وبدأ التغلل الغربي يجدد زرع جذوره في المنطقة العربية وذلك بطرق مختلفة وأساليب جديدة دون أن يحتاج دائما إلى أن يجيش جيوشه ويشعل الحروب فكان من أعظم ما استطاع أن يتغلل فيه لشعوب الأمة العربية ويهدم فيها الكثير هو الغزو الثقافي ومحاولة تغير المفاهيم العربية والوطنية الأصيلة لينتج مفاهيم كما تتناسب مع مصالح الغرب والكيان الصهيوني وتحقيق أسطورة الأمن والأمان له .
مرت العقود والسنين والعالم العربي لا يمارس إلا دور المتلقي والمستورد لكل شيء حتى المفاهيم والعبارات ولا ينتج ولا يصدر إلا سلوكيات شوهت صورة العروبة وعقيدة الإسلام ليعيش الكثير من شباب العروبة في حالة إنبهار وإعجاب بعالم الغرب عندما يرى ما يتمتع به أفراده من حريات وكرامة وإنسانية وحقوق لم يرها ولم يتوقع أن لها وجود في عالم البشرية فبدأ الكثيرون يبحثون لهم عن مكان للرحيل من بلادهم إلى بلاد الغرب للتحرر من العقد العربية والهيمنة الدكتاتورية والإستبداد السيادي الذي كتم على أفواه الشباب وأعمي لهم الأبصار وحرمهم حق الإنسانية ليعيشوا قطعان من العبيد يسيرون إلى حيث يشاء الحكام ليس إلى حيث يشاؤون ويتخذونه من حرية القرار .
ومع بدء الإنفتاح على العالم ورؤية الحقائق والحقوق الإنسانية ومقارنة المواطن العربي لنفسه وحاله مع حال المواطن الغربي والآخر ومع زيادة الوعي العلمي والثقافي والإقبال على التعليم بدأت الممارسات تزداد في الحصول على الحقوق وممارسة المشاركة في القرار فبرزت حركات سياسة تحت أطر وأفكار مختلفة منها من إنطلق من الفكر الإسلامي ومنها من بني على العلمانية واليسارية ومنها من إتخذ مبدأ الشيوعية وغير ذلك ولكن كلها بدأت تلتفت وتطالب في حق الوجود والممارسه في إتخاذ القرار والصناعة السياسية وبناء مستقبل دولته، وحدثت محاولات للتمرد على حكم الإستبداد وخاصة من قبل الحركات الإسلامية ولكن كانت تسابق إليها القيود وتحاصر حركتهم ويتم زجهم في السجون أو قتلهم أو استبعادهم من النشاطات السياسية .
استمر الحال في موطن العروبه على ذلك إلى أن جاء القرن الواحد والعشرون وحدثت ثورات مفاجئة بدأت في تونس العروبة حيث كانت أول من خطى بما يسمى بالربيع العربي نحو الحرية ثار الشعب بأطيافه على حكم الإستبداد الظالم ووقف الجيش مع الشعب وقام بحمايته فكان ذلك أول مبشرات الحرية لجميع الدول العربية، لم تتأخر جمهورية مصر العربية عن الأخذ بهذا المبدأ لتسارع للثورة على حكم طال ظلمة وقهره واستبداده لتقدم الكثير من التضحيات وتصمد الكثير من الأوقات في الميادين والشوارع فقدمت أعظم الصور وأجملها في ثورة 25 يناير العظيمة التي شهد العالم على جمال إدراتها وحكمتها وسلميتها ثم بدا العداد الثوري ينتقل للعواصم العربية فلحقت سوريا العربية التي لم يحالفها الحظ كغيرها بحريتها فوقعت فريسة الحرب التي لا يعرف لها نهاية حتى الآن .
جاءت الحرية أخيراً إلى بعض بلاد العروبة وبدأ مبدأ الديمقراطية يتشكل فيها بعد غياب طويل وأقرت الإنتخابات ليعين في الحكم من يختاره الشعب مهما كان لونه أو طيفه أو جنسه بعيداً عن نسبة 100%، فتقدمت جميع الاطياف الحزبية والسياسية للتنافس على مقاعد الحكم في دول التحرر الجديد وكان حليف فوز الأغلبية للحركات الإسلامية في مقعد الرئاسة ومقاعد البرلمان بإرادة الشعوب الحرة التي مارست حقها لأول مره بعد أن نسيت نفسها وحقوقها لسنوات طويلة عانت القهر والظلم والإستبداد .
وصل أغلبية الإسلاميون للحكم وبدأوا يضعوا مخططاتهم للبناء والتطوير ولعل الوصول للحكم بعد غياب طويل بالإستقصاء والسجون يجعل من يصل للسلطة يريد أن يحمي شعبه من تلك المعاناة ويسعى ليحقق العدالة قدر ما يستطيع ، كما أن ورثة أنظمة الحكم التي سقطت ليس بالسهل أن يُحمل ما ورث منها من فساد قد تجذر لسنوات طويلة ليأتي هؤلاء المنتخبين ويمسحوا آثاره بعام أو عامين ، ولعل ممارستهم الحديثة ستحدث منهم الأخطاء كما هو طبيعي مع أي ممارسة حديثة في أي مجال من مجالات الحياة ولا يعني ذلك أن يُحكم عليهم بالفشل أو عدم القدرة على الإدارة .
فرح الكثيرون بحلول الديمقراطية أخيراً في بعض بلاد العروبة وتمنى الكثيرون أن يعم الأمر في جميع البلاد ويتحرر المواطن العربي من جبروت الحكم الواحد المستبد الذي لا يرى إلا نفسه من يستحق الحكم وأخذ قرار مصائر الملاين من الناس دون أن يُلتفت إليهم أنهم بشر يستحقون أن يُعبروا عن أرائهم و يشاركوا في صناعة مستقبلهم ومستقبل أبنائهم .
ما كان للفرح أن يدوم حيث وقع ما لم يكن بالحسبان وما خطط له من أعداء الديمقراطية المنشودة والتي طالما نادوا بها بلاد العروبة لتقوم عليها وتمارسها لكن عندما تأخذ بها وتطبقها تخرج بمخططاتها وأجندتها التي تهدم الحلم العربي وتعيد الإنسان العربي للعبودية والإستبداد وعهد الجاهلية العمياء هذا ديدن صناع المفاهيم الغربية التي تُصدّر للبلاد العربية لتطبق على مزاجهم كيفما يشاؤون وحيث تتماشى مع مصالحهم وتحقيق أطماعهم وتدمير ما يسمى بالإرهاب ومن يخافون من نجاحاتهم في العالم العربي وفي كل مكان .
جاء المخطط الجديد الذي بدأ في جمهورية مصر العربية بوضع السيناريو الإستبدادي الدموي الذي بدأ يُسقط حق الشعب والمواطن في خياراته فافتعلت ثورة مضادة لثورة الحرية ليتم إسقاطها بالقوة والعنجهية وتغير الحقائق ويحل مكانها ما أرادوا أن يلبسوه لأمة العروبة ليعيدوا أنظمة الظلم والقهر ليبقى المواطن العربي عبداً مطيعا لا يفكر ولا يقرر، وكون أن الحكم المنتخب في يدي الإسلاميين فهذا أشد الخطر عليهم ومن السهل أن يلبس ثوب الإرهاب والعنف ويعلن التفويض بالقتل والإبادة دون تفكير بإنسانية الإنسان وحقه بالحياة والكرامة ، ودون مراعاة لحرمة المكان والزمان ولا لإمرأة أو طفل أو شيخ كبير أو مسالم لا يحمل إلإ إرادة الصمود .
مورس من العسكر وأتباعهم أبشع المجازر ورؤي أصعب المشاهد الإبادية التي لا يتوقع أن تحدث بين أفراد المجتمع الواحد ولا يصدقها العقل ، قتل الكثير من المحتجين والمعتصمين وهم عزل لا يملكون السلاح الناري ليموتوا بصور الحرق أو الخنق أو تشتت الأجزاء أو النزف حتى الموت وهم صامدون في ميادينهم التي تطالب بحق الحرية وإعادة الإرادة المسلوبة بعيداً عن ثوب الإخونجية أو التفرد الإسلامي وحصرها بعودة الرئيس الشرعي بل لتعود الديمقراطية والكرامة الإنسانية .
ولعل الأمر إن نجح في مصر العروبة وسقطت الحريات المنتخبة والدميقراطية الحقيقة وعم مكانها الظلم والإستبداد وحكم الطرف الأوحد وسيادة العسكر سيعمم ذلك وينقل لباقي البلاد التي تحررت من سيطرة الظلم كما في تونس وليبيا وغيرها كما ستُحمي دول أخرى أن يصل لها أي فكر ثوري يفكرأن ينقلب على حكم طال ظلمه وقهره واستبداده فهذا هو السيناريو الذي رسم لأمة العرب والدول العربية .
إن مستقبل الأمة العربية وحرياتها وكرامتها مرهون إما بنجاح الديمقراطية المنتخبة فيها وسيادة الحق وحرية القرار والتعددية الحزبية بعد أن بدأت تنمو وليدة حديثة أو بفشلها وسقوطها والتي لن تقوم لها قائمة لا يعلم مداها غير الله وستسود أنظمة العسكر العنصرية بمساعدة عصابات بلطجية تأخذ زمام أمور الناس بيديها وسيُلبس لمن أراد الدين ثوب يفصله الغرب والصهاينة ليُحاك بأيدي عربية مثلت دور العلم الشرعي فيحق لك أن تصلي وتصوم وتزكي وتحج لكن إياك أن تتدخل في أمور السياسة العامة ولا يحق لك أن تشارك في حزبيات سياسية تحت إطار الدين وإلا مصيرك الإرهاب.
كما أني أتسأل ماذا لو سقطت كل الأحزاب الوطنية التي أيدت بقاء الحكومات الديمقراطية المنتخبة وجاءت حزبيات جديدة تؤيد الثورات المضادة المفتعلة هل ستقوم تلك الحكومات على الديمقراطية الحقيقة واحترام حق الإنسان والتعبير عن الرأي والمشاركة في كل مجالات الحياة ومنها السياسة ؟ ماذا لو خرجت أحزاب إسلامية جديدة أو أحزاب مقاومة تدعو للجهاد والتحرر من كيد اليهود والغرب؟ كيف سيتعامل معها من الحكومات التسلطية الجديدة ؟ هل سيُنسب لها صفة الإرهاب والعنف وترمي بالمنجنيق والنار كما يُرمى الآن أطياف المجتمع العربي ؟
إن ما يُفتعل الآن في حق الشعوب العربية الحرة بغض النظر عن التوجهات الحزبية ما هو إلا إعادة لسيادة أنظمة الظلم والقهر التي سقطت لتستبد وتنتقم وتمارس حقدها وتشفي غليلها ممن حلوا مكانها بالحكم ليُمارسوا حق الشعوب بالعدل ، فالأمر لم يعد مقتصراً على حزب إسلامي معين أو غيره من الأحزاب بل كل مواطن عربي شريف يرفض عودة الإستبداد والتبعية للغرب وحماية مصالح الأمريكان والكيان الصهيوني هو في دائرة الإرهاب والعنف ويُعرض لممارسات القتل والتعذيب والإبادة.
إن قتل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات التي نصت عليها مواثيق العالم وقوانينها والشرائع السماوية و إستبعاد الآخر واستقصائه تعمّداً فقط لإختلاف فكره وتوجهه يُعتبر جريمة بحق الإنسانية والشعوب العربية والتي سيحاسب عليها التاريخ مستقبلاً ولن تنسى ذاكرة الكثيرين ممن عاصروا وشاهدوا أحداث هذا الزمان الذي ساد فيه الظلم والكذب والطغيان على حساب دماء الشعوب وحرياتهم وحقوقهم الإنسانية .

آمال أبو خديجة

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت