بين المفاوضات "المعطلة" وإشكالياتها التاريخية المعقدة، والمصالحة المغدورة، يتردى الوضع الفلسطيني ليراوح في ذات المكان الذي وقف عنده النظام السياسي الفلسطيني عاجزا عن تطوير نفسه، أو على الأقل مساهما أول في إيجاد الحلول المفترضة لأزمات الوضع الوطني الفلسطيني الداخلية منها والخارجية؛ وها هي عناوين تأزم جديدة تضاف إلى تلك القديمة، لا سيما في ظل الوضع المصري الناشئ عن عزل الرئيس محمد مرسي، وتداعيات هذا العزل؛ ليس على صعيد مصر وحدها أو في محيطها الإقليمي الأقرب (قطاع غزة)، أو على صعيد المحيط الإقليمي الأوسع، بل الوضع الدولي الذي تأثر وإن بمقدار، بما يجري اليوم في الميادين المصرية وتداعياتها المتواصلة.
وإذ تضيف المفاوضات غير المشروطة اليوم، المزيد من الشروخ إلى الموقف الوطني الفلسطيني غير الموحد أصلا، فهي بالتأكيد سوف تؤدي إلى تعميق الانقسام، على الرغم من الجهود والاتفاقات الموقعة في القاهرة (نيسان/ابريل وايار/مايو 2011) والدوحة (شباط/فبراير 2012)، والتي بقيت معظم بنودها من دون تطبيق.
ومؤخرا، صعّدت حركتا فتح وحماس، من تراشقهما الاعلامي، في ضوء فشل الحركتين في تحقيق المصالحة الوطنية، في حين زادت اجهزة الامن التابعة للحركتين من استدعاء واعتقال عناصر الحركة الاخرى في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة. الأمر الذي يعني تلاشي الامال بامكانية تنفيذ تحقيق المصالحة، وخاصة بعد ان اشترطت حركة حماس الذهاب لتشكيل حكومة مستقلين برئاسة الرئيس محمود عباس لتنفيذ اتفاق القاهرة، بوقف المفاوضات التي جرى استئنافها مؤخرا مع اسرائيل، الامر الذي اعتبرته حركة فتح بمثابة تهرب من قبل حماس، نافية ما جاء على لسان الدكتور موسى ابو مرزوق عضو المكتب السياسي لحماس من معلومات حول تفاهمات سابقة بين وزير الخارجية الاميركي جون كيري وعباس. وبحسب ما افادت وكالة وفا الرسمية، قالت فتح في بيان صدر عن مفوضية الإعلام والثقافة "إن من يتهرب من المصالحة وإنهاء الانقسام واستعادة وحدة أرض وشعب فلسطين، هو من يرفض تنفيذ اتفاق المصالحة ويراهن على الاستقواء بالخارج".
ولأنه لا يمكن الحديث بعد كل هذا عن موضوعة مصالحة طرفي الانقسام، وعودة التئام النظام السياسي الفلسطيني، فإن العودة إلى استئناف مفاوضات من دون شروط فلسطينية، ومن دون توافق فلسطيني كامل، يعيد إلى الأذهان تلك التجربة المرة التي اكتنفت الوصول إلى اتفاقية أوسلو، في ظل غياب مرجعية يعتدّ بها، ما سيضع إسرائيل في قمة محاولاتها فرض معادلة جديدة، وربما أصبحت متدخلا مهما في الوضع الداخلي الفلسطيني المشرذم. وفي وقت بدأت مصر تبتعد عن تأثيرها المباشر في ظل انشغالها بملفاتها الداخلية، الأمر الذي يبعدها كذلك عن متابعة ملف المصالحة، عوضا عن عدم تأثيرها في المفاوضات؛ لا كطرف متدخل، ولا كطرف وسيط.
بالإضافة إلى تلك العقبات والمعوقات أمام التوصل إلى حلول ولو جزئية لبعض قضايا المفاوضات، هناك المواقف المتعارضة، بل المتناقضة داخل صفوف الحكومة الإسرائيلية، وقد أكدت التصريحات المتواترة خلال الأسابيع الأخيرة لوزراء كبار في الحكومة الإسرائيلية، أن هذه الحكومة ليست في وارد التعاطي بجدية؛ لا مع الجهود التي بذلها وزير الخارجية الأميركي جون كيري لإحياء عملية السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ولا مع موضوعة المفاوضات التي بدأت؛ إنما بات بعضهم يعلن على الملأ أن مصير كل هذا هو الفشل، وذلك جراء رفض إسرائيل فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة، حتى بالشروط التي يضعها رئيس حكومتها بنيامين نتانياهو.
وبعد يومين فقط على تصريح وزير الدفاع موشيه يعالون في واشنطن، بأن المبادرة العربية للسلام، ليست سوى «أحبولة إعلامية» وأن جهود كيري «فشلت حتى الآن»، وقبله تأكيد نائبه داني دانون، أن الحكومة تعارض "حل الدولتين" وتبذل جل جهودها من أجل صد محاولة إقامة دولة فلسطينية، وأن الحل للفلسطينيين «سيكون في الأردن»، جاء دور زعيم حزب «البيت اليهودي» اليميني - الديني المتطرف ممثل المستوطنين في الحكومة وزير الاقتصاد نفتالي بينيت، ليقول من دون مواربة إن «محاولات إقامة دولة فلسطينية قد انتهت، بعد أن وصلت إلى طريق مسدود» وبأنها كانت محاولات «عديمة الجدوى»، مضيفاً أن «لا حق للفلسطينيين في تقرير مصيرهم ولا في دولة لهم بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط».
واعتبر بينيت، الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني مثل «الشظية في مؤخرة إسرائيل»، وقال: «لديّ صديق يعاني من وجود شظية في مؤخرته، وقد أبلغه الأطباء بأنه يمكن إجراء عملية جراحية لإخراجها؛ لكنه سيبقى معاقاً.. وقد قرر أن يواصل العيش معها.. ثمة وضع يمكن أن يسبب الطموح للكمال ضرراً أكبر من الفائدة».
هذه المواقف ومثيلاتها، على ألسنة وزراء في الحكومة، تؤشر إلى أن ثمة غالبية داخل الحكومة الحالية ترفض فكرة «حل الدولتين» التي أعلن نتانياهو قبل أربع سنوات قبولها، من دون أن يخطو خطوة عملية واحدة نحو تطبيقها، ومن دون تضمين الخطوط العريضة لحكومته هذا الحل، حيال معارضة «البيت اليهودي» وغالبية نواب حزبه «ليكود بيتنا» ذلك.
وكان دانون قال الشهر الماضي إن ثمة غالبية داخل الحكومة تعارض "حل الدولتين"، مضيفاً أن نتانياهو يؤيد المفاوضات مع الفلسطينيين «لإدراكه بأن إسرائيل لن تتوصل ذات يوم إلى اتفاق مع الفلسطينيين». ولقي هذا الموقف شبه تنصل من نتانياهو حين أعلن في اليوم التالي أنه ما زال يؤيد "حل الدولتين" على أساس «تسوية تاريخية، تشمل إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح وتعترف بيهودية إسرائيل، مع ترتيبات أمنية مشددة تضعها إسرائيل».
وحاول نائب وزير الخارجية زئيف ألكين تخفيف حدة هذه التصريحات بالقول إنها لا تعكس موقف نتانياهو «تماماً مثلما لا تعكس مواقف وزيرة القضاء تسيبي ليفني موقف رئيس الحكومة». وندد وزير العلوم يعقوف بيري («يش عتيد») بتصريحات بينيت واعتبر أنها «تمس بنسيج العلاقات الحساس وبمحاولات بناء الثقة بيننا وبين الفلسطينيين». وأضاف في بيان أصدره أن مثل هذه التصريحات تسيء لجهود السلام، «وإقامة دولة فلسطينية هي مصلحة إسرائيلية وجودية. وفكرة حل الدولتين هي الحل الوحيد الذي يحول دون أن تكون هنا دولة ثنائية القومية تقضي على الصهيونية».
مهما يكن من أمر تباينات أعضاء الحكومة الإسرائيلية، والتي باتت أوضح من السابق، فإن مسألة المفاوضات وعلى الرغم من التراجعات الفلسطينية، والانقسامات التي تشهدها الجبهة الداخلية الإسرائيلية، كما الفلسطينية؛ وطالما هي محكومة لسقف محدد سلفا من قبل الطرف الإسرائيلي، وإلى حد ما من جانب الطرف الأميركي الوسيط، وبرغم الآمال الوسيعة من قبل الطرف الفلسطيني المفاوض؛ فإنها لن تشهد اختراقات مهمة، بقدر ما سوف تشهد تكرارات واجترارات بلا معنى، قد تفقدها حوافز انعقادها مرة أخرى أو تواصلها، لا سيما إذا ما أحاق الفشل كامل قضايا المفاوضات. لنجد في نهاية مطافها، أي بعد تسعة أشهر من حمل ومخاض كاذبين، أنها لم تولد سوى فئران الفشل؛ ليس في ما يتعلق بالمفاوضات فحسب، بل في كل ما يتعلق بإدارة شؤون البيت الفلسطيني.
أما الطرف الإسرائيلي في هذه الحالة، فيكون قد نجح في تثبيت مقولة "التفاوض من أجل التفاوض" وليس من أجل التوصل إلى اتفاق أو اتفاقات مؤجلة حتى بعد انقضاء الفترة الزمنية المحددة. وبحسب باحث إسرائيلي (شلومو بروم) فإن إحدى الطرق لمنع الأزمة مع نهاية الأشهر التسعة، أنْ يتوصل الطرفان إلى اتفاق بأنهما لن يتفاوضا فقط على الاتفاق النهائي بينهما، إنما على الخطوات الانتقالية للاتفاق النهائي. وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية لصراع لا ينتهي طالما هو استند ويستند إلى مرجعيات توراتية وأساطير مؤسسة؛ وإن عفا عليها الزمن، فإن أساطير أخرى ما لبثت وتلبث تجددها، وتنفخ فيها روح الثأر والانتقام حتى الانتحار. فأي تسوية تاريخية ممكنة في ظل هذا الجنون العاري؟.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت