بالتأكيد لم يكن من السهل الالتزام بهذين المبدأين لأن الجغرافيا وواقع شتات الفلسطينيين والوشائج الدينية والقومية ربطت الفلسطينيين بمحيطهم وأوجدت حالة من التفاعل الوجداني لا يمكن تجاهله،كما أن الواقع والممارسة أثبتا صعوبة التمسك بهذين المبدأين ، فلم يكن في مكنة الثورة الفلسطينية منع الحكومات والأحزاب العربية من التدخل في الشأن الفلسطيني باسم الأيديولوجيا القومية حينا وتحت ذريعة الحفاظ على الأمن القومي حينا آخر،كما أن التعددية داخل المنظمة ووجود فصائل ذات توجهات قومية ويسارية ومرتبطة بأنظمة عربية تمويلا وتسليحا وبعض هذه الفصائل والأحزاب كان يقودها ضباط في جيوش عربية وبعضها قاتل إلى جانب أنظمة عربية،كل ذلك كان يُعسر تطبيق مبدأي استقلالية القرار الوطني و عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية. بالرغم من ذلك حافظت منظمة التحرير بفضل قيادتها الحكيمة على درجة من استقلالية القرار بل دخلت المنظمة في عهد أبو عمار معارك وصراعات في فترات مختلفة مع أكثر من نظام عربي دفاعا عن استقلالية القرار الوطني ، وإن كان الخلاف مع نظام الأسد في سوريا أبرز أشكال التصادم الذي وصل للمواجهة العسكرية في لبنان منتصف السبعينيات ،إلا أن المنظمة تصادمت مع مصر السادات ومع ليبيا ومع السعودية والكويت ومع العراق والأردن ولبنان .
دفع الشعب الفلسطيني ثمنا كبيرا على شبهة أنه يتدخل في الشؤون الداخلية العربية - كما جرى عندما تم اتهام الرئيس أبو عمار بأنه يؤيد صدام حسين في احتلاله للكويت بينما الواقع أن أبو عمار كان محايدا ويريد أن يتم حل الخلاف عربيا بدون تدخل دولي تقوده واشنطن لأنه كان يعرف نتائج التدخل الخارجي وقد أثبتت الأحداث صحة موقفه - ودفع الفلسطينيون ثمنا اكبر بسبب تدخل دول عربية أو بعض الأحزاب والقوى السياسية العربية والإسلامية في شؤونهم الداخلية حيث تم توظيف الفلسطينيين ورمزية قضيتهم في صراعات الأجندة العربية والإقليمية . لكن يبدو أن بعض الفصائل والجماعات الفلسطينية اليوم لم تتعظ ولم تتعلم درسا من الماضي، كما أن بعض الأنظمة والأحزاب العربية تأبى إلا أن توظف القضية الفلسطينية في خلافاتها وصراعاتها الداخلية حتى وإن لم يكن للفلسطينيين دورا مباشرا فيما يجري في بلدانهم من مشاكل.
استحسنا تأكيد القيادة الفلسطينية اليوم على المبدأين المشار إليهما وخصوصا وان نتائج التدخل أو شبهة التدخل فيما تشهده الدول العربية من أحداث أساءت كثيرا للفلسطينيين بل ودفع فلسطينيون أرواحهم وممتلكاتهم بسبب ذلك سواء في سوريا أو مصر وقبلها في العراق وليبيا،وإن كان من الصعب على حركة حماس أن تنأى بنفسها عما يجري ما دامت فرعا لجماعة الإخوان المسلمين وإعلامها عزز هذا التداخل والتدخل ،إلا أن تصريحات بعض قيادات فتح والسلطة في الضفة تثير شبهة الانحياز للنظام الجديد في مصر ،وهذا يؤكد صعوبة الحياد حتى وإن كان مطلوبا ومستحبا ،ومزالق الانحياز حتى وإن كان غير مقصود،ففي الحالتين يدفع الفلسطينيون ثمن الانتماء الأيديولوجي والعقائدي وثمن التداخل الجغرافي والبشري،والذي يدفع الثمن هو الشعب .
لأننا نؤمن ونتمسك باستقلالية القرار الوطني ونؤمن أن لا مشروعا وطنيا بدون استقلالية القرار الوطني، فقد تحدثنا وكتبنا كثيرا عن المشروع الوطني وضرورة تحريره من الإيديولوجيات العابرة حتى ولو تسربلت بلباس الدين أو القومية أو الأممية. لم يكن موقفنا رفضا للوشائج القومية والدينية التي تربط شعبا بالأمة العربية والإسلامية ،ولا رفضا ليد العون التي تُقدم لنا بحسن نية،ولكنه ينبع من إدراكنا للحالة العربية والإسلامية غير المتفقة على رؤية وإستراتيجية واحدة حول القضية الفلسطينية،وإدراكنا لما تعرفه الشعوب العربية والإسلامية من صراعات داخلية تحاول أطرافها توظيف القضية الفلسطينية لخدمة أغراضها ولتحسين مواقعها ومواقفها في صراعاتها الداخلية ،أيضا معرفتنا أن الأنظمة العربية ليست سيدة نفسها لتقرر الدخول في مواجهة لتحرير فلسطين ، حتى وإن كانت صاحبة قرار فأوضاعها الحالية لا تؤهلها لخوض صدام مضمون النتائج ،كما أن غالبية أحزاب وجماعات الإسلام السياسي العربية باتت مخترقة من أكثر من جهة بالإضافة إلى تجاهلها للخصوصية الفلسطينية ولأولوية تحرير فلسطين، لقد أرسلت مقاتليها إلى كل أصقاع الأرض من أفغانستان وباكستان إلى كوسوفو مرورا بالعراق واليمن وسوريا وليبيا ولم يجرؤوا على إرسالهم لتحرير القدس وفلسطين التي تحتلها إسرائيل ربيبة واشنطن،أليس في ذلك شبهة ما؟.
مع ما يسمى بالربيع العربي انكشفت بسرعة غالبية جماعات الإسلام السياسي،كما كشفت حرب حزيران 1967 الواقع المزري للأنظمة والأحزاب القومية،مع فارق أن هزيمة حزيران كانت نتيجة عدوان إسرائيلي ولم تؤدي لتغيير مواقف الأحزاب والأنظمة القومية المعادية لإسرائيل والغرب حيث حاولت رد الكرامة واستعادة الأراضي المحتلة في حرب أكتوبر 1973 ، بينما جماعات الإسلام السياسي سعت للوصول إلى السلطة في تنسيق واضح مع الغرب وعلى رأسه واشنطن وفي مهادنة مع إسرائيل وعلى حساب القضية الوطنية الفلسطينية التي كانت كبش فداء (للربيع العربي).
لأن التاريخ ليس فقط تسجيل لأحداث الماضي بل دروس وعبر تستلهم ،فإنه من المفيد الرجوع للماضي حتى لا يقال إن العرب لا يتعلمون من الماضي ولا يحسنون فقه الحاضر . لقد أدت هزيمة حزيران لتعزيز الوطنية الفلسطينية ودفعت بجميع الأحزاب والقوى السياسية الفلسطينية حتى التي كانت تعتبر نفسها امتدادا لأحزاب قومية عربية - مثل منظمة الصاعقة التي كانت امتدادا لحزب البعث الحاكم في سوريا وجبهة التحرير العربية التي كانت امتدادا لحزب البعث الحاكم في العراق والجبهة الشعبية التي كان المنتسبون لها أعضاء في حركة القوميين العرب – لأن توطن نفسها ونشاطها السياسي من خلال الدخول في منظمة التحرير الفلسطينية وهذا ما تم عام 1968 /1969.بعد هذا التاريخ وعندما أصبحت منظمة التحرير تمثل الكل الفلسطيني وأصبح لها قيادة واحدة وإستراتيجية واحدة فرضت نفسها على الجميع وكسبت احترام العالم الذي اعترف بها بعد خمس سنوات فقط ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني .
لن ندخل في جدل حول الشأن الداخلي في مصر من حيث الصراع على الشرعيات،وهل ما جرى بعد 30 يونيو ثورة أم انقلاب؟ فالسياسة لا تقوم فقط على صناديق الانتخابات وعلى الشرعية بل على الأمر الواقع أيضا حتى وإن كنا غير راضين عنه ، ففي عالمنا العربي دول وأنظمة الأمر الواقع أكثر عددا من الدول والأنظمة الديمقراطية ،المهم أن هناك واقعا في مصر يقول بأن حكم الإخوان المسلمين قد انتهى وعودتهم للسلطة فد تحتاج لوقت طويل كما أن الأوضاع في تونس وليبيا قد تسير في نفس الاتجاه ، فهل ستتعظ حركة حماس وتعيد حساباتها وتعود للحضن الوطني الفلسطيني وللوطنية الفلسطينية التي فيها متسع للجميع حتى نستطيع موحدين مواجهة إسرائيل العدو المشترك الذي يسرق الأرض ويدنس المقدسات ويهين كرامة الجميع؟ .
23/08/2013
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت