السعودية تضع المسألة المصرية في سياق جديد
لم نعرف مكانة وحجم مصر إلا بعد أن حدث ما حدث معها وفيها.
ولم نعرف متانة وفاعلية الحبل الذي يشدنا كعرب إلى الظاهرة المصرية، في حالة قوتها أو ضعفها كما عرفناه الآن.
كان وعينا لمصر كظاهرة سياسية استراتيجية وعيا نظريا ويكاد يكون شعاريا فقط.
فهي في أدبياتنا الشقيقة الكبرى، مع أنها في سلوكنا لم تكن كذلك، وهي في شعاراتنا قائدة الأمة، وجدارها الاستنادي العصي على الانهيار، إلا أننا لم نتعامل معها عمليا وفق هذا الشعار، بل تعاملنا على عكسه تماما.
وحين انبعثت الظاهرة الناصرية، وأشعلت الشارع العربي بالحماس، كان خصومها أكثر بكثير من حلفائها، فدفعت مصر أثمانا باهظة، لقاء زعامة افتراضية، ومكانة متنازع عليها، فكان العقد المنصرم هو عقد الكوارث والانتكاسات المغلفة بسذاجة الأمنيات واللغة الشعارية غير المنطقية.
غير أن هذا الوضع - غير الصحي وغير السوي، بل إنه فوق ذلك المسؤول عن الانتكاسات والانهيارات العربية، يجب أن يكون قد دخل مرحلة بداية النهاية، ونأمل ألا تكون النهاية المرجوة طويلة الأمد وباهظة الخسارة.
وهنا يصح القفز عن السؤال من كان المسؤول عن كل ما حدث؟ هل هو مصر؟ هل هو النظام العربي الرسمي؟ هل هو العالم الخارجي؟
إن الجواب عن هذه الأسئلة يكون حقيقيا وبليغا ومفيدا، لو أنهينا الجدل حوله، وشرعنا في قراءة موضوعية للواقع الراهن وكيفية التعامل معه.
المفتاح هو مصر، ولقد أظهرت المملكة العربية السعودية، ومعها دول الخليج، وعيا عميقا لهذه الحقيقة وما يمكن أن يبنى عليها في الحاضر وفي المستقبل، فبادرت إلى دمج نفسها مع مصر، ومضت من دون تأن أو تردد في سياسة ذات محتوى أخلاقي، لا ينفصم عن الحسابات الاستراتيجية الصحيحة، والمحتوى الأخلاقي يتجسد في الوقوف إلى جانب الشقيق، وتوفير كل ما يلزم له من أجل الصمود ومواجهة المحن. أما الحسابات السياسية والاستراتيجية فقوامها وبالتبسيط.. تخيل دول الخليج بلا مصر، وتخيل مصر بلا دول الخليج، وتخيل الجميع من دون عمق استراتيجي آمن لا يغدر ولا يطعن في الظهر.
وهنا يدخل الفلسطينيون والأردنيون المشهد، بعيدا عن تلك الأكذوبة المسماة بالوقوف على مسافة واحدة من المتصارعين، وكأن ما يحدث في مصر هو شجار عائلي يفض بوساطة خيرية.
كان العرب قبل سنوات قليلة يكرهون كلمة الفرز والمحاور، وكانوا يفضلون عليها النفاق تحت عنوان التضامن والتوافق، كان ذلك يحدث في مناسبات احتفالية كافتتاحيات القمة واختتامها، ولكن حين نقيس ذلك بالوقائع، فإن كل المظاهر الشعارية تختفي مع مغادرة آخر زعيم لبلد القمة، ومع أول خلاف يعود إلى الواجهة بين دولتين كانتا قبل أيام غارقتين في عناق حار.
هذا الواقع يجب أن يتغير، لأن فيه من النفاق أكثر بكثير مما فيه من المعالجة الموضوعية للعلاقات.. لقد أسقطت الوقائع كل الشعارات التي غلفت الوضع العربي المتردي على مدى عقود، ولا مناص من أن ينهض واقع جديد، قوامه تحالفات راسخة ومستنيرة بين القوى المنسجمة سياسيا، مع ترك الباب مفتوحا على مصراعيه لمن يرغب في التحالف على هذا الأساس.
التضامن العربي الذي كان الاسم الرمزي لسياسة اللاجدوى القومية لم يعد قائما، بل لم يعد ممكنا.. ما دامت أداته قمم المجاملة والتوافق المستحيل، وبوسعنا أن نقرأ الخلاصات النهائية، على الصفحة العراقية والسورية والمصرية، وبوسعنا قراءة ما هو أخطر، حين نتعمق في خلفيات الصراع الداخلي في كل بلد، بل في كل مدينة وحي وبيت.
لقد أعجب العالم بالمبادرة السعودية الخليجية تجاه مصر، وما زاد إعجابه بها أن المبادرة السعودية الخليجية جاءت في وقتها، وبالحجم المناسب لفاعليتها وتأثيرها، ولعل ما أعطاها رونقا إضافيا أنها تخلف النهج الأميركي في التعامل مع الوضع المصري، وهنا يصح السؤال من هو المستقل حقا؟
ومع أن أحدا لا يستطيع تجاهل أهمية العلاقة الخليجية مع أميركا تحديدا، ولا أحد ينشد مصلحة الأمة إلا ويكون حريصا على بقاء هذه العلاقة وحتى تطويرها والسعي للإفادة منها خليجيا وعربيا، إلا أن أحدا لا ولن يحترم التبعية التلقائية والعمياء، وهذا أمر والحق يقال كان يظهر في المواقف السعودية من التوجهات الأميركية، تلك المواقف التي تصادمت فيها القرارات السعودية مع التوجهات الأميركية. وإذا كان قرار الملك فيصل في عام 1973 بإيقاف ضخ البترول ووضع المقدرات السعودية في خدمة معركة الأمة، التي قادتها مصر، يكفي كبرهان تاريخي عن الاستقلالية في اختيار الأولويات وتبنيها. فإن القرار السعودي الذي اتخذه الملك عبد الله بن عبد العزيز بمشاركة مصر حمل أعبائها الثقيلة، أظهر أيضا مَن المستقل حقا، ومن الذي يمارس استقلاله فعلا. إن السعودية ومعها دول الخليج ومعها الأردنيون والفلسطينيون ومعها كل دولة عربية وإسلامية، ترى خريطة العالم الذي يتشكل من جديد على إيقاع ما يجري في مصر، لا تملك إلا المضي قدما في سياسة مدروسة ومصممة، تبدأ بمشاركة مصر، وتتواصل بتعزيز أواصر التحالف العلني المتين، القائم على أساس سياسي واحد ومتكامل، قوامه الاعتدال والواقعية، وهذا ما تجتمع عليه كل الدول والمجتمعات والقوى، التي دعمت التغيير في مصر، وتراهن على صيغة حكم جديدة يكون فيها الوطني وطنيا حقا، والقومي عارفا لمصالح الأمة، وكيفية رعايتها وحمايتها، ولا يستثنى من هذا الاصطفاف المنشود أحد.
إن عضلة عربية قوية لا بد أن تلتف حولها قوى لا يمكن أن تتحقق فاعليتها إلا بالتحالف الشجاع والواعي، وهذا ما نحتاجه للحفاظ على مجتمعاتنا ولردع من يتسلل إلى حياتنا من ثنايا الفراغات المروعة في بيتنا. لم يعد ممكنا لأي دولة عربية أن تحافظ على بقائها من دون تحالفات مصيرية، والتحالف المصيري يجب أن يبدأ عربيا.
نبيل عمرو
نقلا عن صحيفة/ الشرق الاوسط
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت