حول المفاوضات والإستيطان

بقلم: بسام الصالحي


اسرائيل استبدلت هدف المفاوضات من الارض مقابل السلام إلى (السلطة) مقابل السلام ، ونعارض هذه المفاوضات من منطلق السعي الجدي لتغيير منطلقاتها ومنهجها والياتها استنادا لاعتراف الامم المتحدة بدولة فلسطين

حتى وقت قريب تشبث الجانب الفلسطيني بشروط او متطلبات اساسية من اجل العودة إلى المفاوضات ، وذلك كتعبير عن محاولة فلسطينية لتغيير قواعد العملية التفاوضية ومنع اعادة انتاجها على الشاكلة السابقة ، وقد تمثلت هذه المتطلبات بتحديد مرجعية المفاوضات استنادا الى حدود عام ١٩٦٧ ، ووقف الاستيطان مع عدم الاعتراف بشرعيته بصورة كاملة ، بالاضافة الى ادراج قضية الاسرى كقضية مركزية في هذا الاطار .

وقد تطور هذا الموقف باتجاه حسم مسألة الحدود رغما عن الموقف الاسرائيلي من خلال التوجه إلى الامم المتحدة وكسب الاعتراف بدولة فلسطين على حدود عام1967 وعاصمتها القدس الشرقية ،وايضا باتجاه استثمار الارادة السياسية والمعنوية للامم المتحدة ومؤسساتها في رفض الاستيطان وجرائم الحرب الاسرائيلية وفي توسيع حملة الادانة الدولية لهذه الممارسات .،ومن اجل تطوير استراتيجية فلسطينية تقوم على الجمع الناجح بين الارادة الشعبية في مقاومة الاحتلال والصمود الوطني من جهة وبين الارادة الدولية التي تقوم على توسيع حركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وعلى تعزيز مكانة فلسطين في المؤسسات والمنظمات الدولية وعلى راسها الامم المتحدة من جهة اخرى .

غير ان استئناف المفاوضات دون تحقيق وقف الاستيطان (بل على العكس زيادته و توسيعه )ودون التزام اسرائيل بمرجعية حدود عام 1967 ، مثل انتكاسة بارزة لهذه الوجهة التي تم السير عليها خلال الاعوام الثلاثة الماضية والتي اعطت ثمارها بالتصويت الكبير في الجمعية العامة للامم المتحدة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين ،وفي تزايد الاعترافات بدولة فلسطين وتنامي الادانة الدولية للاحتلال والاستيطان الاسرائيلي كما عبر عنه البيان الهام للاتحاد الاوروبي وغيره من المواقف الدولية وكذلك في تنامي حركات التضامن مع الشعب افلسطيني ومقاطعة اسرائيل ومستوطناتها .

وفضلا عن تاثير العودة للمفاوضات السلبي على اندفاعة هذه الموجة من التضامن الدولي فان العودة للمفاوضات كما تمت فتحت شهية اسرائيل اكثر واكثر لفرض رؤيتها وشروطها للتسوية السياسية على قاعدة التنكر للقرارات الدولية والاستناد الى الامر الواقع الذي تخلقه يوميا على الارض والى سعيها المنهجي مع الادارة الامريكية لافراغ قرار الاعتراف بدولة فلسطين من اي محتوى عملي او تفاوضي مشروع.

ان هذا الوضع يفرض إلى جانب اهمية وقف هذه المفاوضات والتمسك بمتطلبات استئنافها كما كانت ،اهمية مواجهة الشروط والمضامين المطروحة للتسوية السياسية ذاتها كما تطرحها اسرائيل والولايات المتحدة ،والتي تقوم على التنصل من مرجعية قرارات الامم المتحدة ، والاستناد بدلا عنها إلى معطيات الامر الواقع الذي فرضه الاحتلال والاستيطان ،والهبوط بمعالجة مجمل قضايا المفاوضات حتى عما كان مطروحا من قبل الحكومات الاسرائيلية السابقة منذ كامب ديفيد 2000 وحتى الان .

ان هذا المنحى المنهجي الاسرائيلي الامريكي للهبوط بسقف قضايا المفاوضات يشكل بحد ذاته خطرا لا بد من التصدي له ، فكل سقف جديد يجري النفاهم عليه بين اسرائيل والادارة الامريكية يصبح هو مرجعية التعامل مع ما يسمى قضايا الحل النهائي ، وهو امر يمتد من قضية الامن التي يجري بحثها بين اسرائيل والولايات المتحدة بمعزل عن الجانب الفلسطيني ، الى كافة القضايا الاخرى وفي المركز منها قضيتي الحدود واللاجئين.


ان الموقف الاسرائيلي تجاه الحدود يستند اساسا الًى ضم الاراضي تحت مسمى تبادل الاراضي اكثر مما يستند الى الاقرار بحدود عام ١٩٦٧ كمرجعية للحدود ، وهو يعتمد بصورة عملية على ضم الكتل الاستيطانية وتوسيع هذه الكتل بما يضمن الحاق مستوطنات جديدة بها وهو ما قال عنه جون كيري ضمان. بقاء ٨٥٪ من المستوطنات والكتل مع اسرائيل ، وهو يعني توسيع المفهوم السابق للتبادل كما طرح في كامب ديفيد ٢٠٠٠ ، الامر الذي يفسر االتسارع المحموم في الاستيطان وفي خلق تكتلات استيطانية وتوسيع عملية الربط بينها وهو ما يفسر كذلك التفاهمات الاسرائيلية الامريكية حول استمرار البناء الاستيطاني في مناطق معينة هي غالبية المستوطنات باعتبارها ستؤول الى اسرائيل .

ان هذا الامر يعني ان اسرائيل قد اخرجت موضوع المستوطنات فعليا من اطار التفاوض وانها تحصر التفاوض حول الحدود في اطار توسيع نسبة ضم اراض اضافية خارج الكتل الاستيطانية ،وذلك في حدود نسبة مئوية تتراوح بين ٨-١٤٪ ،يرافقها ترتيبات ضم نوعية تقوم على ابقاء منطقة الاغوار بقسمها الاكبر وبعض المرتفعات الغربية وجوار القدس تحت السيطرة الاسرائلية ،اما في اطار الضم الفعلي او في اطار الترتيبات الامنية بحيث لا تؤول فعليا الى السيادة الفلسطينية ، وهنا يمتزج المفهوم الامني الاسرائلي بمفهوم الحدود وبواقع الضم الفعلي للقدس والانطلاق من ذلك في معالجة وضعها .

ان التفاهمات الاسرائلية الامريكية بشان الحدود كما اعلن عنها.كيري بخصوص ضم الكتل والمستوطنات ،وكما مهدت لها رسالة ضمانات بوش لشارون عام ٢٠٠٤ ، تكون قد حسمت موضوع ضم الكتل مسبقا قبل المفاوضات وهذا امر خطر للغاية ، كما انها تسعى لحسم بقية القضايا بنفس الطريقة ، من هنا كان لا بد من رفض الربط بين الحدود وتبادل الاراضي كجزء من مرجعية المفاوضات ،وهو الموقف الاسرائيلي الامريكي والذي طلب كيري دعمه عربيا كاضافة على مبادرة السلام العربية بحيث يصبح مفهوم التبادل جزءا ملازما للحدود كمرجعية متلازمة. وهو ما يختلف تماما عن كونه قضية جزئية يمكن ان تبحث في ظل حسم امر الحدود وبضمنها .

لا يوجد لدينا شك ان المفاوض الفلسطيني سيسعى للتمسك بمعالجة قضية الحدود استنادا الى حدود ١٩٦٧ وهو الامر الطبيعي ولكن لا يمكن اغفال ان الصيغة التي تمت العودة الى المفاوضات على اساسها ، ستضعف موقفه هذا وستضعه تحت ضغوط اضافية جديدة اكبر من تلك التي واجهها قبل العودة للمفاوضات ، ولذلك كان ينبغي استمرار التمسك بمطلب وقف كافة الانشطة الاستيطانية ليس فقط من اجل منع استمرار التوسع الاستيطاني على اهمية ذلك وانما ايضا من اجل رفض التسليم المسبق بضم المستوطنات والكتل الاستيطانية ولمنع الاقرار باية فوارق في الاستيطان كما يتضح في التفاهمات الاسرائيلية الامريكية وانما بوصف كافة الانشطة الاستيطانية غير شرعية ، ولذلك فان قضية وقف الاستيطان هي اكبر بكثير من كونها قضية اجرائية او كقضية في المفاوضات ، بل انها هي لب القضايا وان الادعاء بالفصل بينها وبين الحدود بعد الربط المحكم الذي خلقه الموقف الاسرائيلي- الامريكي بضم الكتل كجزء من تبادل الاراضي وفي ظل مواصلة الاستيطان هو ادعاء غير دقيق ، ومن هنا كان لا بد من استمرار خوض الصراع على وقف الاستيطان بالصيغة الفلسطينية التي عرفته بانه كافة الانشطة الاستيطانية دون استثناء بما فيها في القدس الشرقية ، وفي الحقيقة فقد باتت هذه هي الصيغة التي تضمنها البيان الاور وبي الهام ،والذي مهد لتعميم هذا الموقف على مستويات مختلفة لدى دول العالم .وفي كافة المحافل والمؤسسات الدولية وعلى راسها اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة المقرر في ايلول من هذا العام .

وينبغي التذكير اليوم ايضا ونحن نقترب من ربع قرن على بدء المفاوضات ، بالجملة الشهيرة للدكتور حيدر عبد الشافي ابان مفاوضات مدريد وواشنطن بان ( الاستيطان اولا) هو مفتاح التقدم في المفاوضات ، وان التراجع عن جعل هذه القضية هي محور المعالجة يولد سيلا متزايدا من التراجعات خاصة وانه في المقابل فان النجاح في حسم هذه القضية يعني النجاح في حسم مسالة الحدود ، ويضع قضية المستوطنات في اطار قضية الحدود وليس بوصفها قضية تعلو على قضية الحدود ومستقلة عنها كما تريد اسرائيل ان تفرضها.


لكل ذلك فان التمسك بوقف الاستيطان يبقى موقفا صحيحا ويعكس في حال تنفيذه مدى استعداد اسرائيل وامريكا للتقدم في القضايا الاخرى وخاصة قضية الحدود وبصيغة واضحة لا لبس فيها ،حيث ان اعتراف الامم المتحدة بدولة فلسطين وفر الفرصة الحقيقية لمنع اسرائيل من استمرار التعامل مع قضية الارض والحدود بوصفها اراض متنازع عليها، ولكنه في نفس الوقت زاد من مساعيها ومعها الادارة الامريكية لافراغ قرار الامم المتحدة من محتواه هذا والتعامل معه وكانه قرار منعدم واعادة استحضار واستئناف العملية التفاوضية على شاكلتها السابقة وحتى من سقف ادنى عما توقفت عنده.

لكل ذلك فان المطلوب ليس فقط التمسك بمرجعية حدود 1967 دون اشتراط ربطها بتبادل الحدود ،ولكن ايضا تغيير منطلقات التفاوض حول ذلك بالاستناد إلى الاضافة التي وفرها قرار اعتراف الامم المتحدة بدولة فلسطين ،بحيث ينطلق التفاوض اساسا من انهاء الاحتلال عن اراضي دولة فلسطين كما اعترفت بها الامم المتحدة ووفقا لحدودها على الاراضي المحتلة عام ١٩٦٧ وعاصمنها القدس الشرقية .

ان هذا التغيير في منطلق التفاوض يتعدى حدود التمسك باشتراطات التفاوض التي توافقت عليها مؤسسات منظمة النحرير ،الى مضمون ومنهج المفاوضات ذاتها ، بحيث يصبح محورها الاساسي قضيتين مركزيتين الاولى انهاء الاحتلال بكل مظاهره العسكرية والاستيطانية والمدنية عن اراضي دولة فلسطين المحتلة وهي كامل الاراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية ،وضمان سيادة هذه الدولة بشكل كامل على اراضيها واجوائها ومواردها ،والثانية وهي ضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين وعلى راسها حق العودة وفقا للقرار 194 .

ان هذا التغيير ليس تغييرا شكليا عن منطلق ومنهج المفاوضات الراهن والمستمر منذ اعلان اوسلو وحتى اليوم وهو المنهج القائم على تجزئة القضايا فيما سمي قضايا الحل النهائي ،خاصة وان ذلك يعني في ظل اضعاف مرجعية قرارات الامم المتحدة ورفض اسرائيل الالتزام بها ،ان صيغة الحل والدولة والتسوية ستنطلق من التعامل الجزئي مع كل قضية من قضايا الحل النهائي ،وتركيب خلاصة حلول هذه القضايا كما يتم التوافق عليها او كما يجري بلورتها بين اسرائيل وامريكا على الصيغة الاجمالية للحل ،وهذا المنهج الخطر هو الذي قاد وسيقود إلى تمييع وهبوط في سقف كل هذه القضايا من مثال ما جرى مع موضوع تبادل الاراضي او من مثال ما يجري تجاه قضية اللاجئين حيث باتت وكانها مسالة جمع شمل بعض الاسر الفلسطينية ،وكما هو الحال تجاه موضوع الامن الذي ينتقص من السيادة الفلسطينية او غير ذلك ،بينما ان المصلحة الفلسطينية تتطلب الانطلاق بشكل لا لبس فيه من اقرار والتزام اسرائيل بشكل واضح بمرجعية قرارات الامم المتحدة والتقدم عبر ذلك تجاه بحث ما تسمى قضايا الحل النهائي .

لكل ذلك فان اعادة انتاج المفاوضات على شاكلتها السابقة وبغض النظر عن احتمالية نجاحها المحدودة ،تحمل في طياتها علامات انتكاس تنذر بالهبوط بسقف مضمونها إلى ما هو ادنى ليس فقط من شروط العودة للمفاوضات كما كان متفقا عليها فلسطينينا ،وانما ايضا في مضامين ومرجعيات قضايا المفاوضات التي تنتزعها اسرائيل والولايات المتحدة من وعائها المتمثل في قرارات الامم المتحدة لتجعلها ذات مرجعية جديدة مبنية على الامر الواقع الاحتلالي .

من هنا فان مضمون معارضة المفاوضات من وجهة نظرنا لا ينطلق فقط من المطالبة بوقفها ولكن ايضا من السعي لاعادة حسم مرجعياتها ومنهجها وفقا لقرارات الامم المتحدة ولالية تسمح برعاية حقيقية للامم المتحدة ومجلس الامن

عليها ،وهي عملية تتطلب امن اجل تحقيقها استئناف الوجهة التي بوشر بها عند التوجه للامم المتحدة ،ومضمونها القائم على الربط الصحيح بين الارادة الشعبية الفلسطينية والارادة الدولية من اجل ضمان ان اية مفاوضات يجب ان تجري على اساس واضح لا لبس فيه بانهاء الاحتلال الفوري عن اراضي دولة فلسطين وان اية تسوية نهائية يجب ان ترتبط بالحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفقا للقرار 194 .

لا شك ان هذا التغيير الجوهري يتطلب تغييرا في موازين القوى ويتطلب استعدادات اكثر جدية على كل المستويات مما هو قائم في الواقع الفلسطيني الراهن ،ولكن طريق هذا التغيير حتى لو كان معقدا ومحاطا بتاثيرات وضع اقليمي ودولي متحرك ،وبتعقيدات اواقع انقسام مدمر ، وواقع ضغوط اقتصادية ومعيشية غير مسبوقة ،الا انه في ذات الوقت هو الطريق المضمون لانجاز اهداف التحرر الوطني الفلسطيني في ظل تنامي دور الاجيال الشابة من الفلسطينيين ،وفي ظل اصطدام مشروع اسرائيل لفصل غزة بتطورات الاوضاع في مصر التي تعزز رفض مصر الواضح لاية صيغة لغزة بمعزل عن الدولة الفلسطينية المستقلة، إلى جانب تمسك ابناء غزة وعموم شعبنا برفض الانقسام وبالربط الصريح لمستقبل غزة بالدولة الفلسطينية وبوحدة المستقبل الوطني للشعب الفلسطيني باسره ،فضلا طبعا عن تنامي حالة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني .

هذا الطريق الشاق والمكلف هو طريق اجباري في ظل تنامي التطرف الاسرائيلي وفي ظل اصرار اسرائيل على استكمال تنفيذ مشروعها التوسعي والاستيطاني الاحتلالي الذي حققته منذ عام 1948 ،وهو المشروع الذي باتت ملامحه تتضح يوما بعد يوم في ظل تفاهم كامل مع الادارة الامريكية من اجل اعادة انتاج الاحتلال بصيغة جديدة تقوم على توسيع بعض صلاحيات السلطة الفلسطينية ،في مقابل توسيع الضم والسيطرة على اكبر مساحة من الاراضي الفلسطينية ،وفي ظل تحييد المجتمع الدولي عن لعب أي دور في التدخل لصالح تطبيق قرارات الامم المتحدة ،وبحيث تصبح المعادلة الفعلية في الضفة والقطاع على السواء هي :السلطة مقابل السلام بدل ان كانت الارض مقابل السلام .


بسام الصالحي

الامين العام لحزب الشعب الفلسطيني
27/8/2013

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت