الشباب أمل الأمة
ابتدأ مهرجان العودة إلى المدارس ، وفتحت صروح العلم أبوابها ، وعادت ساحاتها تعج بالحركة والحياة ، وعاد فلذات الأكباد بعد استراحة صيفية قصيرة نالوا فيها قسطاً من الراحة تأهَّباً للدراسة والجد والاجتهاد ، بعد أن استثمروا ساعاتها ولم يضيعوا ثمين لحظاتها ، فالعمر هو أيامنا التي تتجدد مع كل إطلالة فجر ، وتنطوي مع كل غروب شمس ، فأعمارنا نعمة كبيرة ربح منا من قضاها في العمل المثمر ، وخسر من أفناها في العجز والكسل والضياع ، فنحن مسؤولون عن كل لحظة فيها ، قال صلى الله عليه وسلم { لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه ... } رواه الترمذي
يمثل الشباب ثروة الأمة وغدُها الواعد بالقوة والتقدم والازدهار ، فهم الذين يبنون آمالها ويرسمون معالم مستقبلها المشرق ، لما يتصفون به من خصائص تميزهم عن الفئات العُمْرِيَّة الأخرى في المجتمع :
* فهم يتمتعون بالنشاط والحيوية لأنهم في أوج القوة والقدرة على العطاء .
* ويمتلكون الطاقة الفائقة التي ينبغي أن توجه إلى الخير والبناء وعمارة الوطن ، وإلاَّ كانت وَبالاً على صاحبها .
* ويتصفون أيضاً بالجرأة والإقدام والشجاعة وترك الجبن والخوف ، رأينا ذلك في موقف الشباب الراغب بالشهادة يوم أحد ، فقد أصروا على الخروج لمقابلة العدو خارج المدينة المنورة ، فاستجاب صلى الله عليه وسلم لرأيهم هذا مع أنه مخالف لرأيه ومخالف لقناعته من الناحية العسكرية .
* وتتلازم هذه الصفة مع رغبتهم بالتضحية والفداء ، وبذل النفس رخيصة في سبيل المبادئ التي يؤمنون بها ، والأمة التي يتصف أبناؤها بهذه الصفة أمة قوية تنال مرادها وتحقق أهدافها السامية ، وقد خلَّد القرآن الكريم موقف الشاب المؤمن الذي ضحى بنفسه إظهاراً للحق في قصة أصحاب الأخدود التي تضمنتها سورة البروج ، وسجل قصة أهل الكهف الشبان ، قال تعالى { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } الكهف 13 .
* وتكاد وروح المغامرة أن لا تفارق الشباب ، فمواكبة التطور تكون بالبحث واكتساب المعرفة واكتشاف المجهول ، واستخدامه فيما يعود على الأمة بالنفع والخير ، فالتقدم الحضاري مرده إلى المغامرة والمثابرة لكن بعيداً عن التهور .
* والشباب المؤمن الواعي أبعد ما يكون عن التقليد الأعمى لأن من سماته التفكر والتدبر والتحرر من القيود ، استجابة لتوجيه رسولنا صلى الله عليه وسلم { لا تكونوا إمَّعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا } رواه الترمذي ، لكن هذا التحرر يعني تحمل المسؤولية ، ولا يعني عدم الانضباط أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل هو حرية مقيدة بآداب الإسلام وتعاليمه التي تنظم حياته ليكون مالكاً لنفسه لا عبداً لشهواته .
وفي الشباب كانت نبوات وحكمة ورسالات ، قال تعالى { يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } مريم 12 ، وقال سبحانه عن سيدنا عيسى عليه السلام { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ } آل عمران 46 .
أولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشباب بعنايته ورعايته ، ومن أبرز مظاهر ذلك :
* كان صلى الله عليه وسلم يتلطف معهم في التوجيه ؛ بعيداً عن التعنيف والإحراج أو تسفيه الآراء ، فيغفر لهم عارض زلاَّتهم ، ويقدر بطولاتهم وتضحياتهم .
* ورباهم صلى الله عليه وسلم على العقيدة والخلق والرجولة ، ليكونوا الصفوة التي تعتمد عليهم الأمة في لحظاتها الحرجة ومواقفها المصيرية ، فكانوا الرعيل الأول الذي قامت الدعوة في بدايتها على كاهلهم .
* وكان أكثر أتباعه في تلك الفترة من الشباب الذين أثَّروا في ترسيخ قواعد الإسلام وترسيخ أركانه ، ونشر عقيدته ومبادئه في الآفاق .
* وكثيراً ما كان يعهد إليهم بالمهام الخطيرة ، فأول فدائي في الإسلام علي بن أبي طالب الذي نام في فراش رسول الله ليلة الهجرة ، ودور الشابَّيْن عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء في الهجرة له أهميته في نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم ونجاحه ، وتكليف أسامة بن زيد وهو في الثامنة عشرة أو أقل من ذلك بقيادة جيش فيه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لمواجهة الروم على مشارف بلاد الشام له دلالة عظيمة .
ومن أهم مظاهر رعاية الشريعة الإسلامية للشباب الكشف عن طاقاتهم الكامنة وتوجيهها ، ومن ذلك :
1- توجيه الطاقات المعنوية والفكرية إلى ما ينفع الناس ، كالدعوة إلى دين الله والاجتهاد بياناً للأحكام الشرعية ، فصاروا مرجعية الناس في العلم والفقه :
* قال صلى الله عليه وسلم { أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبيّ } رواه الترمذي
* ووضع يده على كتفَيْ ابن عباس ثم قال { اللهم فقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل } رواه أحمد .
* وبعث علياً إلى اليمن قاضياً فقال : يا رسول الله ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء فقال { إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضِيَنَّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء } رواه أبو داود .
* وأوكل أبو بكر رضي الله عنه بمهمة جمع القرآن الكريم إلى زيد بن ثابت فقال له { إنك رجل شاب عاقل ولا نتَّهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتَتَبَّع القرآن فاجمعه ، قال زيد فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به } رواه البخاري .
2- توجيه الطاقات المادية :
* برعاية القوة الجسمية وممارسة الرياضة ، قال عمر بن الخطاب { علموا أولادكم السباحة والرماية والفروسية } .
* وبالحث على العمل والكسب المشروع ، قال صلى الله عليه وسلم { ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده } رواه البخاري ، فنبي الله داود لم يمنعه العرش والملك أو مال الدولة أن يعمل حداداً لينفق على نفسه .
* وبتهذيب الغريزة الجنسية من خلال الزواج وبناء الأسرة لإشباع احتياجاته الفطرية ، وتلبية الأشواق النفسية والمشاعر الإنسانية مع مراعاة متطلبات الروح والعقل والجسد باعتدال وتوازن ، قال صلى الله عليه وسلم { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء } رواه البخاري ، فإساءة إشباع هذه الغرائز يغرق صاحبها في سعار محموم يلهث وراءه دون ارتواء أو اكتفاء ، والنجاة منه تكون بالعفة والاستغناء بحلالها عن حرامها ، قال صلى الله عليه وسلم { سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله } رواه البخاري.
3- المشاركة في العمل التطوعي ، فالرجل الصالح الذي صحبه سيدنا موسى عليه السلام أقام جدار الغلامين اليتيمين تطوعاً بغير أجر ، قال تعالى في ذلك { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } الكهف 77 ، وقال صلى الله عليه وسلم { كل سُلاَمَى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل على دابته فترفع عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة وتميط الأذى عن الطريق صدقة } رواه البخاري . وتعاون الصحابة في حفر الخندق ، وشاركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن قبلُ كانوا قد تعاونوا بمشاركته صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد .
وتكمن قيمة العمل التطوعي في المجتمع أن فيه نماء الخير وزيادة العطاء ، ونمو روح الجماعة والشعور برضا النفس وطمأنينة القلب ، وهذا ثمرة المشاركة الوجدانية التي يستشعرها من يخالط الناس بكل إيجابية وفاعلية .
وما أحوج شبابنا اليوم إلى ترجمة ولائهم لأمتهم وانتمائهم لمجتمعهم ووطنهم بالمشاركة في ميادين العمل التطوعي :
* فيمكنهم مساعدة الفقراء والأيتام والمسنين وذوي الاحتياجات الخاصة ، قال صلى الله عليه وسلم { الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله } رواه البخاري .
* وبرعاية أسر الشهداء والجرحى والأسرى ، قال صلى الله عليه وسلم { من خلف غازيا في سبيل الله في أهله بخير فقد غزا } رواه البخاري .
* وبالمشاركة في بناء المدارس والمشافي ومراكز الخدمة الاجتماعية والمنتديات الثقافية .
* والعناية بالبيئة والحد من التلوث بتخضير الأرض وزراعة الأشجار حينما يسمح وقتهم بذلك ، قال صلى الله عليه وسلم { إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل } رواه أحمد .
* وليعلموا أن التعليم التطوعي بمحو الأمية والتدريب على المهارات المؤهلة للمهن يوازي رسالة المعلم .
الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي/قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت