نحو مجتمع الصمود

بقلم: تيسير محيسن


بعد حوالي نصف قرن على احتلالهما، وفي ظل أوضاع إقليمية حرجة ومتفجرة للغاية، تبدو الضفة الغربية مستباحة بالكامل أمام الاستيطان والضم وسياسات الفصل والعزل، ويبدو قطاع غزة بمثابة سجن كبير مطوق من كل جهاته بالمنع والحظر والقتل، هذا بينما تواصل القدس اختفاءها في ظل التهويد الذي يطال عمقها وتاريخها وسكانها. منظمة التحرير الفلسطينية، الغائب الحاضر، تفقد زمام قيادتها للشعب والقضية، وتصير محفلاً لتبادل الكلمات واللكمات أحياناً، والسلطة باتت شيئاً يصعب تسميته، كيانا أو حالة أو خطابا، وقد فقدت طابعها الدولاني، في الأثناء تواصل حكومتان، فقدتا شرعيتهما، طبخ الحصى وزراعة الوهم وجمع الضرائب.

كنا قد استعجلنا، أو قل توهمنا، الانتقال من مجتمع الصمود الأول المتشكل في ظل انتفاضة 87، إلى مجتمع الدولة، فولجنا ثلاثة مسارات متداخلة، أفضت بنا في نهاية المطاف، إلى ما آل إليه حالنا من ضعف وهوان، وبتنا على شفير هاوية من نكبة جديدة: مسار المقاومة العنيفة على النحو الذي مارسناه، مسار المفاوضات على النهج الذي اتبعناه، ومسار بناء الدولة والمأسسة والدمقرطة على النحو الذي تمنيناه برعاية إقليمية ودعم خارجي سخي للمسارات الثلاثة! فماذا كان حصادنا؟ بات هذا المجتمع بالذات، وما يمثله من وجود مادي واجتماعي وكياني على أرض فلسطين، عرضة لخطر غير مسبوق، بينما يمعن الإقليم من حولنا في التفكك والانهيار.

لا يصعب، والحالة كذلك، الاستنتاج أن مقاربة "حل الدولتين" قد وصلت إلى نهاية محزنة: إسرائيل تواصل وجودها وتوسعها وبناء قوتها، والنظام الاجتماعي الفلسطيني المتشكل في الضفة والقطاع في أعقاب حرب حزيران، يتفكك وينهار بالكامل، بينما يترصد شتاتنا شتاتٌ جديد في ربيع العرب الذي لم يزهر بعد. أكثر من ذلك، بات ضرباً من ضروب الخيال الاعتقاد بأن الدولة على الأبواب، ونعني بذلك الدولة كاملة السيادة، والمتواصلة على حدود الرابع من حزيران، وبالطبع عاصمتها القدس. فماذا ينتظر الفلسطينيون، وقد عاد من يطرح سؤال رشيد الخالدي حول أوضاعهم ما قبل النكبة، لماذا فشل الفلسطينيون في إقامة دولتهم؟ أين وعيهم بذاتهم ووعيهم للواقع؟

ومهما كانت الأسباب، أو حتى المبررات، فالسؤال لازال مطروحاً: ما هي الخيارات والبدائل؟ كيف يواصل الفلسطينيون كفاحهم السيزيفي من أجل تحررهم وبناء دولتهم وضمان حقهم في العودة؟ وما يلقي بظلال كثيفة على السؤال وإجاباته المحتملة، السياق الإقليمي المتحول والمتفجر والمتفكك، انزواء العرب، أمة وبلدانا وشعوبا، خلف أحلاف غاشمة أو في أزقة حرب شوارع دامية بينهم وبين أنفسهم، تارة باسم القبيلة وتارة أخرى باسم الطائفة، ودائماً برسم مصالح وامتيازات موعودة، وقليلاً ما يستمد بعضهم من بئر الأيدولوجيا الطاغية أو العقيدة الجياشة، ما يسوغ القتل والاستقواء بالخارج على الداخل. إنه زمن القتل المجرد، أي القتل لمجرد القتل.

قد تفضي مفاوضات الربع ساعة الأخيرة، التي تشكل مع الضربة العسكرية المحتملة ضد سوريا، افتتاحاً للمرحلة الثانية من الاستراتيجية الأمريكية، أي مرحلة إعادة تركيب الإقليم بما ينطوي عليه الأمر من اختفاء كيانات وانبثاق أخرى، أقول قد تفضي هذه المفاوضات إلى دولة قزمة في غزة وأجزاء من الضفة الغربية مع انهاء ملف الصراع، مثلما أراد شارون ذات مرة. ومن المحتمل أن ترفض إسرائيل هذا الحل وتدفع نحو الحل الإقليمي طبقاً لرؤية آيورا آيلاند ضمن صفقة إقليمية، فإن لم يحدث ذلك، قد تستغل إسرائيل هشاشة الجوار، وتواطؤ العالم أو بعضه، وحماقات فلسطينية من نوع ما، فتدفع نحو الحل الإقليمي بقوة الواقع وليس نتاج صفقة، أي ما يشبه النكبة الجديدة. في الأثناء، سوف تواصل أوساط ثقافية وأكاديمية طرحها الطوباوي باستبدال حل الدولتين بحل الدولة الواحدة، ما يعني قفزة في الفراغ، فيما لو تبنته الأوساط القيادية الفلسطينية، وما من شأنه أن يعفي إسرائيل من التزاماتها، ففي كل الأحوال دولتها قائمة، بينما الدولة الثانية، فلسطين، غير قائمة بعد. هذا الخيار يدفع الفلسطينيين، لو تبنوه رسمياً، خارج إطار الشرعيتين العربية والدولية. فما الحل إذن؟ هل من بديل واقعي وممكن؟

إن انعدام فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة في غضون السنوات القادمة (قد تقصر وقد تطول)، تعني إما أن يعود الفلسطينيون القهقرى إلى حيث بدأوا نضالهم أول مرة، في سياق شديد الاختلاف والتعقيد، وإما أن يتريثوا قليلاً، لا يستعجلون تفاوضاً ولا ينفعلون مقاومة عنيفة، يمكثون في الأرض ويعيدوا ترتيب أوضاعهم على طريق بناء "مجتمع الصمود"، نسخة مطورة من "مجتمع الانتفاضة الأولى" فيتخلصون من كل ما يعيق قدرتهم على امتصاص الضربات المحتملة، وكل ما يشكل مادة لابتزازهم والضغط عليهم، وكل ما يمكن أن يمنح إسرائيل في عدوانها غطاءً وذريعة، فإن هي واصلت هذا العدوان بات مكشوفاً أمام ضمير العالم بوصفه استخدام القوة المجردة، التطهير العرقي أو التمييز العنصري، أي كل ما لا يحتمله العالم في القرن الواحد والعشرين.

في مجتمع الصمود السلطة الفلسطينية زائدة، ولكن ذلك لا يعني حلها، وإنما تحويلها إلى مجرد آلة/جهاز لتزويد الخدمات. وفي مجتمع الصمود، اقتصاد السوق نكتة سمجة، فالحال يقتضي تطوير اقتصاد التكافل والتضامن والاعتماد على الذات، وفي مجتمع الصمود ثمة ضرورة لإعادة الاعتبار للعرف على حساب عمليات القوننة الزائدة وغير المحسوبة وغير الضرورية. القانون تجسيد للسيادة، ولما كانت السيادة منقوصة إلى حد كبير، يخشى أن يتحول القانون أداة للقمع أو وسيلة لتحقيق الهيمنة، وفي الحالين تقويض الصمود وتمكين الاحتلال. ومجتمع الصمود حالة وسطى بين المجتمع الحديث الذي لم يكتمل بعد، وبين المجتمع الأهلي/الأصلي. وبوصفه كذلك، يجب ألا نجعله مرتبطاً بالكامل بفكرة السلطة أو نرهنه تماماً برسم الدولة. فطالما الدولة غائبة، والسلطة زائلة، فلا أقل من المحافظة على المجتمع بوصفه مجتمعاً سياسياً، يمنع الانهيار والتشظي كما يشكل أرضية جاهزة لقيام الدولة فيما لو أتيحت لنا ظروف تمكننا من إعلانها. قد يقول قائل: وما معنى ذلك كله؟ فالمجتمع موجود ونحن قاب قوسين أو أدنى من الدولة (عند فريق التفاوض)، والاستقلال قريب (عند فريق المقاومة). فلماذا نتخلى طوعاً عن ذلك؟ وهل هذا يعيق إسرائيل حقاً؟ أو يمنعها من تنفيذ مخططاتها الجهنمية؟ أقول، ربما، على الأقل نكون قد سحبنا الذرائع، وجعلناها مكشوفة أمام ذاتها وأمام العالم، وما ضير التمهل والحكمة طالما أن مجتمع الصمود هو حالة دينامية وليس دائمة كشأن السلطة أو موهومة كشأن الدولة، فلماذا الاعتقال السياسي؟ ولماذا التفاوت في توزيع الخيرات العامة (قوة وثروة)؟ ولماذا الانقسام وإدعاء اختلاف البرامج؟ ولماذا ارتهان الإرادة بينما تجري عملية تقويض المجتمع وتجفيف ينابيع الحرية والوحدة والتكافل بين أعضاءه؟ لماذا الإصرار على استعراض قوة لا نملكها حقاً ونتغاطى عن مورث كفاحي من الصمود والتمسك بالحق وعدم الرضوخ؟ لماذا الاصرار على تدمير الذات؟ ومقابل ماذا؟: سلطة اعتمادية؟ مشروع إقليمي، إسلامي أو قومي، لن يأتي قريباً؟ دولة لا تلوح بشائرها في الأفق إلا إذا وافقنا على قزميتها/شكلها المسخ مقابل التنازل عن كل شيئ؟ شعار فارغ من ميكانيزمات فعله واستحالة تطبيقه في هذا الزمن كحل الدولة الواحدة؟ ليس لنا، والله إلا التعقل والحكمة والصبر، فلنستثمر في مجتمعنا، نعيد بناء ركائز صموده ولا نعرضه لعواصف الإقليم ونوايا حكومة اليمين المتشدد، فإذا لم يمكننا ذلك من إعادة حوالي 5 مليون فلسطيني لاجئ إلى ديارهم، فعلى الأقل نحافظ على وجود 5 مليون آخرين فوق أرضهم، وإذا لم يقربنا ذلك من الدولة، فعلى الأقل يحافظ على مجتمعها السياسي ومكتسباته الثقافية والسياسية والكيانية، وإذا لم نستطع انتزاع القدس من مصيرها المظلم، فعلى الأقل نحافظ على وجودنا هناك، وكل ذلك برسم المستقبل وقدرة الأجيال وتبدل الأحوال، فلا شيئ إطلاقاً يبقى على حاله. احذروا تدمير المجتمع مقابل التعلق بأوهام السلطة والدولة في زمن يضن علينا حتى بمجرد الوجود!

E-mail: [email protected]

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت