كادت أن تنفجر الأوضاع في المنطقة نتيجة إصرار الإدارة الأمريكية خوض غمار العدوان على سوريا تحت ذريعة استخدام السلاح الكيمياوي ضد المدنيين العزّل ، لولا إمساك الروس طرف الخيط في اللحظة الحاسمة أدّت إلى نزع فتيل الإنفجار ولو بشكلٍ مؤقت ، وسط جدلٍ محموم بين أركان الإدارة الأمريكية من جهة وبين المشـرّعين وغالبية عامة الشعب الأمريكي اللذان يرفضان الإقدام على توجيه أي ضربةٍ عسكريةٍ خارجية من جهة أخرى، إضافة إلى وضع مماثل شهدته المملكة المتحدة وفرنسا، فهل كانت الصدفة وحدها أو زلة لسان "السيد كيري"وزير الخارجية خلال حديث صحفي حول إمكانية العدول عن الضربة العسكرية "التأديبية" في حال تمّ التخلي عن السلاح الكيمياوي السوري ووضعه تحت الإشراف الدولي هي من أنقذت الموقف ، كما صورها القادة الروس وأضحت بمثابة مخرجاً إنقاذياً يعوّل عليها كل الأطراف؟ أم أن الأمر يتعـدّى ذلك بكثيرحين دفع بالأزمة إلى الذروّة حتى تكون الصفقة قد نضجت بين أمريكا وروسيا على هامش مؤتمر دول العشرين في مدينة سان بطرس بورغ الروسية ، لتجريد سوريا من أسلحة الردع التي تمتلكها كخطوة أولى تليها خطوات مستقبلية أخرى تستهدف القوة الصاروخية بما يعيد إلى الذاكرة سيناريو مشهد فرق التفتيش سـيئة الصيت والسمعة في العراق ، وكسر معادلة التوازن الإستراتيجي التي عملت عليها سوريا عقود طويلة ، لصالح الترسانة النووية التي بحوزة إسرائيل فضلاّ عن مخزون الأسلحة الكيميائية الفتّاكة الذي كشفت عنه مؤخراً وكالة المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A حيث أكدت تصنيع هذه الأسلحة المحرمّة دولياً ومنها غاز الأعصاب "السارين" منذ مطلع سبعينات القرن الماضي ، ولكنّها بررّت منطق الإزدواجية المقزّز لحليفتها الإستراتيجية أحقّية امتلاكها تحت ذريعة الدفاع عن نفسها كونها تعيش وسط محيط معادٍ من العرب الذين يكنّون لها الكراهية على حدّ زعم التقرير.
إن الدول الكبرى لاترسم إستراتيجياتها العملية وفقاً لعوامل الصدفة أوالتقديرات المتسرّعة غير المحسوبة كما حاول البعض أن يصّور ماجرى ، لذلك تجّلى بوضوح السلوك الروسي المدروس خلال الأيام والساعات الأخيرة إذ أعلنت على الملأ بانها لن تتورط في أي مواجهة عسكرية مع الولايات المتحدة وهو أمر طبيعي متوقّّع في كل الأحوال ، بل اكتفت بإرسال بعض سفنها الحربية إلى المتوسط للمراقبة وأجلت بضع مئات من رعاياها غير الضروريين العاملين في سوريا ، ثم صدر عنها تصريحات متزامنة تثير الريبة من حيث التوقيت حول تأجيل تسليم الصواريخ من نوع S300 المتطوّرة وكذلك الطائرات الحربية الحديثة لأسباب أوعزتها إلى عدم قدرة الجانب السوري تسديد أثمان العقود المبرمة حسب البروتوكولات الموقعّة بينهما ، في حين أبلغت اسرائيل الرئيس بوتن أثناء زيارة "نتنياهو" في وقت سابق بتدميرهذه الأسلحة التي تهددّ امنها فورعملية التسليم وهو ماأقدمت عليه بالفعل عندما هاجمت مستودعات ميناء طرطوس وفي أماكن أخرى، مايوحي عن تخلي إلإدارة الروسية عن دعم الحليف السوري وتركه وحيداً في مواجهة العدوان إلا إذا قبل بالحلول التي يراها المجتمع الدولي مناسبة ًلنزع فتيل الأزمة وتداعياتها ، مع العلم أن مسألة تجريد السلاح الكيمياوي لم يكن مطلباً ظاهراً على السطح وليس لبّ المشكلة القائمة في سوريا منذ عامين ونيف ، بل جرى الحديث عن استخدام هذه الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين يوم الحادي والعشرين من شهر أب الماضي في نطاق استمرار النزيف الدامي ، الأمر الذي دعا الأمم المتحدة لإرسال لجنة محققين مهنيين وظيفتها إثبات حقائق استعمال هذه الأسلحة من عدمها دون تخويلها تحميل المسؤولية لأي طرفٍ كان كما ينبغي على المجتمع الدولي محاسبة الجهات التي ارتكبت الجريمة في سياق منفصل عن الأحداث ، لكن الإدارة الروسية أرادت من وراء المبادرة مايحقق لها العودة المؤثرة والقوية على الواجهة الدولية وأيضاً إظهار أنها صاحبة الحل والربّط إثر حصولها بشكلٍ رسمي من قبل الحكومة السورية على ورقة السلاح الكيمياوي ماجعلها ترفع نبرة خطابها التفاوضي مرة أخرى، مستفيدة من تعثّر الإدارة الأمريكية المربكة والمتخبّطة امام قوة الرفض المتنامية داخل الولايات المتحدة حتى بعد خطاب الرئيس أوباما الهادىء والمتزّن حسب وصف المحللين .
لقد تبددّت الأمال في إيجاد حل لجذر الأزمة السورية على المدى المنظور بعد أن تشعبّت معالجاتها وانتقلت إلى الفروع بدل عملية سياسية متكاملة تنقذ مايمكن انقاذه وتنهي معاناة ملايين اللاجئين والنازحين الذين ضاقت بهم السبل وأضحى المواطن السوري ومعه الفلسطيني المنكوب فريسة سهلة للتجاذبات السياسية وتجار الحروب والبشر ، وأيضاً ممارسات القوى القادمة من كل حدب وصوب الدخيلة والغريبة عن قيم المجتمع وعراقته التاريخية ، لعلّ ماينبغي أن يدركه الجميع أن الحّل الوحيد القابل للحياة في سوريا يقرره الشعب السوري نفسه ، إذ لايمكن صناعتة في واشنطن أو موسكو أو استنبول لأن هذه الدول تحركّها مصالحها وأجنداتها الخاصة وتتعامل مع الأزمة وفق مقدار الفائدة التي ستجنيها من وراء تدخلها الذي غالباً ما يصبّ الزيت على نار الأزمة وإطالة أمدها وبالتالي تحويل سوريا الى ساحة تصفية حسابات بين القوى الدولية المتنازعة ، ربما تجاهل البعض أن قبول وضع الأسلحة الكيمياوية تحت الإشراف الدولي وما يليها لاحقاً تحتاج إلى مفاوضات قد تستغرق شهوراً بين روسيا وأمريكا من جهة والمجتمع الدولي من جهة أخرى ، ناهيك عن الوضع الميداني العسكري المتداخل وألية العمل وطريقة التفتيش والمعلومات الإستخبارية التي ستقدمها الدول وهي عملية طويلة عقيمة قد تنتج عنها توترات وربما حروب ليست لها نهاية .
إن سوريا اليوم تقف أمام مفترق طرق إما أن يكون لها مبادرتها الخاصة لرؤيا سياسية ناضجة تلتقي بها مع كافة الأطراف الوطنية عند منتصف الطريق دون إقصاء أحد ، أو السير بالنهج الراهن الذي سيكون له عواقب مدمرة لأسس الدولة السورية ومكوّناتها الإجتماعية وهو ماتسعى إلية المخططات الأمريكية الصهيونية ضمن رؤيتها للشرق الأوسط الجديد القائمة على تفكيك ركائز الدولة الوطنية وخلق النعرات الطائفية والمذهبية وابقائها أسيرة التبعية ، فالإنتصار الحقيقي يكون للوطن وللمكانة التي مثلتّها سوريا على مرّ التاريخ وتفويت الفرصة على العابثين بمقدرات الشعوب ، يبقى السؤال الذي لابد منّه عن الطرف الرابح من المشاريع والصفقات الدولية ؟ والإجابة لن تكون صعبة إنها إسرائيل مربط الفرس ، من سخرية الأقدار ان الدول الكبرى تبيع أسلحتها للعرب لإنقاذ اقتصادياتها المنهارة ثم يتفقوا فيما بينهم على أنها تشكل خطراً على الأمن والسلم الدوليين لذلك لابد من تدميرها ! ألم نقل أن السر وراء كل مايجري كلمة واحدة هي اسرائيل ...........
كاتب سياسي
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت