عشرون عام مضت حسب العمر الزمني لتوقيع اتفاق إعلان المبادئ في أوسلو عام 1994، في حين أن العمر الفعلي لم يتعد الست سنوات عمليًا، حيث جاءت انتفاضة الأقصى عام 2000 لتضع أوسلو وتجلياته في غرفة العناية المركزة لدرجة الاحتضار ولم يعد صالح للحياة سوى بالأجهزة التي تساعد وتساهم في استمراره بالحياة، وخاصة مع حرص المجتمع الدولي على عدم انهيار السلطة الوطنية التي تعتبر رافعه حتى راهن اللحظة لشيء ما في ضمير هذا المجتمع المدعي للإنسانية، والتي يرى فيها واجب اقتصادي فقط وأداة اقتصادية أشبه بوزارات وجمعيات الإغاثة التي أبدع وبرع فيها المجتمع الدولي منذ نشوء القضية الفلسطينية، محاولًا بكل جهده وجهيده أن يحولها لقضية إغاثة ولاجئين دون أن ينجح أمام إصرار وعناد وثبات الشعب الفلسطيني الذي قاوم كل هذه المحاولات وقاتل ضدها، وأكد على حقه الثابت وغير المتغير بوطنه وأرضه، سواء في حدود التكتيك أو الإستراتيجية المرحلية عبر أراضي 1967 أو حقه التاريخي بفلسطين التاريخية.
وقع الشهيد ياسر عرفات أوسلو وهو يدرك أن خطوته التاريخية هذه لا سبل للحياة لها في ظل عالم لا يرى بفلسطين وطن لشعب اقتلع من أرضه وهجر، إلا أنه راهن على شعبنا الفلسطيني، وراهن على إمكانية تحقيق شيء ما في ظل التقلبات الدولية التي طرأت على المشهد العالمي، وانهيار كل التحالفات المساندة للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية بدءًا من انهيار الاتحاد السوفيتي الذي شاركنا جميعًا حتى كعرب في انهياره، ودفعنا مليارات الدولارات لمقاومته اقتصاديًا وحصاره في مناطق نفوذه العربية، وسياسيًا من خلال الدول العربية الوظيفية التي شكلت رافعة للقوى الاستعمارية والصهيونية العالمية ضد الاتحاد السوفيتي تحت مسمى الشيوعية، كما ساهمنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني مباشرة أو غير مباشرة في هذا الانهيار حتى انهارت أكبر منظومة داعمة للشعب الفلسطيني ولثورته في ذاك الوقت، كما انهار العراق وبدأت القوى العربية الوظيفية تضغط على الثورة الفلسطينية، بعدما غابت قياداته الفاعلة والضاغطة ثوريًا، وأصبحت الثورة الفلسطينية بلا أنياب، ومجردة من هامشها ومساحتها بعد الخروج من بيروت وساحت الفصائل الفلسطينية، والمقاتلين الفلسطينيين في أصقاع العروبة الباردة، وتصفية رموز العمل الفدائي الفلسطيني أي بما معناه قصقصة ريش الثورة. ثم الدوافع المحلية التي تمثلت بالانتفاضة الشعبية الفلسطينية التي خاضها الشعب الفلسطيني عام 1987 والتي كانت أهم أوراق القوة بيد القيادة الفلسطينية آنذاك، لكنها للأسف بعثرتها وبهتت من بياضها ونصاعتها، واستثمرتها في الاتجاه الخاطئ. ووقعت على وتيرتها أتفاق أوسلو غير واضح المعالم والملامح حتى راهن اللحظة، واستمرت تفاوض وتقاتل في ميدان الشدّ والجذب مع الدولة الكيانية، ومماطلة الولايات المتحدة، والرضى بصنبور الدعم المالي فقط الذي وجد فيه فرصة استثمارية لهم للاستثمار وزيادة الأرصدة والتكرش مع إلقاء فتات في البناء التحتي الفلسطيني الذى تهاوى سريعًا تحت ضربات الفساد من جهة، وطائرات وصواريخ الاحتلال
من جهة أخرى، وأكملت المناكفات العسكرية بين حماس والسلطة الوطنية البقية الباقية من هذه البنى الهشة، فغادرت كلها وبقيت لنا مسميات أوسلو وأخواتها وكأنها مكتوبة بالحبر السري.
عشرون عام مرت على توقيع إعلان المبادئ في أوسلو ولم يصيغ أي اتجاه فلسطيني رؤيته لهذا الإعلان الذي أصبح واقع على الأرض سوى بالشعارات والمزايدات، والمناكفات الفلسطينية - الفلسطينية، فالسلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح تبنت المشروع ودافعت عنه واستثمرت فيه بكل طاقتها، وتحولت من حركة تحرير وطني لحركة استثمار سياسي، تحاول أن تبني دولة أو مؤسسات دولة هشه لتقديم ملفات للدول المانحة فقط، والاستثمار بتهدئة الشارع الفلسطيني اقتصاديًا من خلال استيعاب الشباب الفلسطيني وتوظيفة، وتوفير بعض مصادر الحياة لهم، وهو ما لم تنجح فيه وسقطت في أول اختبار مع الانتخابات التشريعية عام 2006، رغم أن الشهيد ياسر عرفات قدم المقدمات التي لم يستوعبها أحد وأرسل رسائل مباشرة وغير مباشرة لكل العالم بأن أوسلو سقط تحت ركام المقاطعة التي حوصر فيها ومن ثم تم تسميمه والتخلص منه لأنه قال " لا" للاستغناء عن بعض الثوابت المتعلقة بالقدس وغيرها.
أما فصائلنا الفلسطينية بدءًا من حركة حماس التي قاومت أوسلو بالعمليات الاستشهادية وبالسياسة فأنها رسمت معارضتها لهدف الانقضاض على السلطة وهو ما تحقق وسقطت كل الشعارات تحت لذة السلطة ومميزاتها وأسرت شعبنا الفلسطيني في بطنها لكي تحقق أهدافها الحزبية والتنظيمية، ولا زالت متخبطة لا تدرك ما هو المستقبل أو إستراتيجية المستقبل التي تسير عليها حركة حماس الحاكمة اليوم، وكأي مواطن فلسطيني أسأل ما هي أفاق المستقبل للقضية الفلسطينية؟ ولمشروع المقاومة التي تنادي فيه حركة حماس في ظل الحالة الحالية؟
أما قوى اليسار فهذه القوى عمليًا هي شريكة بأوسلو عمليًا ونظريًا، ولا تتقن من معارضته سوى بالشكل والإطار النظري، وكل محاولات التنصل منه لم تأخذ الجانب العملي والحقيقي بل أنها تعتبر شريك فاعل ومؤثر في أوسلو وشاركت في إضافة المناخ الديمقراطي على إقراره وتوقيعه من خلال مشاركتها الفعلية بكل المؤسسات التي صاغت ووافقت على أوسلو وإخوانها، وأخرها مشاركتها الفعلية بأهم مؤسسة أفرزتها أوسلو وهي المجلس التشريعي الذي لا يمثل إلا فلسطيني الداخل، ورغم ذلك لا زالت هذه القوى تتثبت بالشعار دون الممارسة على الأرض لمقاومة أوسلو أو خلق بدائل واقعية منطقية تقنع بها جماهير شعبنا الفلسطيني.
المحطة الأخيرة بأوسلو هي محاولات الرئيس محمود عباس تحريك المياه الراكدة في مستنقع أوسلو من خلال محاولاته تحريك القضية الفلسطينية بالمؤسسات الدولية، من جهة وإحياء المفاوضات من جهة أخرى وهي تعتبر محاولة في إنعاش الروح المحتضرة في ظل المتغيرات الفعلية على الأرض الفلسطينية ومحيطها العربي، دون أن يتم صياغة استراتيجيات مستقبلية لأي حلول قادمة في ظل حالة الانقسام الجغرافية والسياسية، وحالة الانفصال الفعلي بين الخارج والداخل الفلسطيني، وكلها تأتي في إطار محاولة تقديم شيء ما يلهي به شعبنا الفلسطيني في ظل واقعة المأزوم.
إذن عشرون عام من أوسلو لم يحقق للشعب الفلسطيني سوى مزيدًا من التشرذم، ومزيدًا من الانقسام، ومزيدًا من الالتفاف على جماهير شعبنا وطموحاتها الوطنية.
د. سامي الأخرس
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت