دور المبادئ والأسس القضائية في تحقيق العدالة

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
دور المبادئ والأسس القضائية في تحقيق العدالة

الحلقة الثانية : تناولت في الحلقة الماضية مبدأ استقلال القضاء وأهميته في تحقيق العدالة وبسط سيادة القانون ، ولكن لا بد من مبادئ أخرى توازيه وتطبق معه لاكتمال منظومة العدالة ، ومنها الحد من استعمال السلطة لئلا تقود إلى التعسف فيها ، وهو المبالغة في استعمال الحق مما يؤدي إلى ظلم الناس وإيقاع الضرر الكبير بهم .
فما معنى التعسف في استعمال الحق ؟ وما حكمه في الشرع ؟
وهنا لا بد من البدء بتوضيح مفهوم الحق ثم توضيح حكم التعسف فيه :
الحق في اللغة نقيض الباطل ، ويعني صدق الحديث أو اليقين بعد الشك ، أما في الاصطلاح فهو اختصاص يقرِّرُ به الشرعُ سلطةً أو تكليفاً .
والحق قسمان : الحق الشخصي والحق العيني ، أما الحق الشخصي فهو مطلبٌ يقره الشرع لشخص على آخر ، ويشتمل الحق الشخصي في الفقه الإسلامي على عدة روابط قانونية متميز بعضها عن بعض :
أ- الالتزام بالدَّيْن : وهو المتعلق بالذمة المالية ، وهو الْتزامٌ محله مبلغٌ من النقود أو جملةٌ من الأشياء المثلية ومصادره متعددة كالعقود مثلاً .
ب- الالتزام بالعين : هو التزام محله عين معينة بالذات لتمليكها أو تمليك منفعتها أو تسليمها أو حفظها .
ت- الالتزام بالعمل : هو التزام محله صنع شيء معين بعقد استصناع ؛ أو أداء خدمة معينة بعقد إيجار .
ث- الالتزام بالتوثيق : ومحله كفالة التزام ، ومصدره عقد الكفالة ، وقد يكون الالتزام المكفول به التزاماً بالدين ، أو التزاماً بالعين ، أو التزاماً بالتسليم .
والحق العيني هو علاقةٌ حقوقيةٌ مباشرة بين شخص وشيء مادي معين بذاته ؛ بحيث يكون الشخص ذا مصلحة اختصاصية تخوله سلطة مباشرة على عين مالية معينة ، وهو مصطلح غربي حديث لم يستعمله الفقهاء المسلمين في مصنفاتهم . والحقوق العينية قسمان : حقوق أصلية وحقوق حقوق تبعية ، أما الحقوق الأصلية فهي :
1- حق الملك التام : هو ملك الرقبة والمنفعة معاً ، بحيث يتصرف المالك تصرفاً مطلقاً فيما يملكه عيناً ومنفعة واستغلالاً ، فينتفع بالعين المملوكة وبغلَّتها وثمارها ونتاجها ، ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة ؛ وهذا التصرف جائز ما لم يكن فيه ضرر فاحش ، فإذا ترتب على التصرف أي ضرر فإنه يمنع .
2- حق المنفعة : هو حق المنتفع في استعمال العين واستغلالها ما دامت قائمة على حالها وإن لم تكن رقبتها مملوكة له . وأسباب ملك المنفعة العقد أو الوصية أو الوقف ، فالعقد بيع ، وبيع المنافع أكثر ما يكون في الإجارة أو العارية ، والوصية كثيراً ما ترد على المنفعة فتملِّكُها للموصَى له بعد موت الموصِي ، والوقف يرد على العين فيجعل رقبتها غير مملوكة لأحد من الناس ، وتبقى المنفعة للمستحقين .
3- حق الرقبة : ويوجد هذا الحق حيث يُنْتَزَعُ حق المنفعة من الملك التام ؛ فتبقى الرقبة على ملك صاحبها الأصلي ، ويملك المنفعة شخص آخر غير مالك الرقبة ، وأكثر ما يكون ذلك بالوصية ، فيجوز أن يوصي بمنفعة العين لشخص مع بقاء رقبتها لورثة الموصِى .
4- حقوق الارتفاق : هي الحقوق المقررة على عقار لمنفعة عقارٍ لشخص آخر . ومن حقوق الارتفاق الشرب والمجرى والمسيل والمرور والتعلِّي والجوار .
أما الحقوق التبعية فهي حقوق تترتب على الأعيان ضماناً للديون ، وهما حقان :
1- حق الرهن : ويقع على العقار وعلى المنقول ، وينشأ من عقد الرهن ، وهو عقد به يَحْبِسُ الدائن مالاً للمدين ضماناً للدين ، بحيث يستوفي الدائن حقه من هذا المال المرهون إذا لم يَفِ المدين بالدين ، وحق الرهن حق تبعي لأنه ضمان للدين ؛ وحق عيني لأنه يتعلق مباشرة بالعين المرهونة ، وللدائن المرتهن حق التتبع وحق التقدم .
2- حق الحبس : ويتركز في المال ضماناً للدين ، وقد ينشأ من العقد كما هو الحال في حق حبس المأجور من قبل المستأجر ؛ إذ الإجارة حق يتم استرداد ما دفعه من أجرة معجلة ، كما أن حق الحبس قد ينشأ بحكم الشرع دون عقد ، كحبس الملتقط اللقطة عن مالكها حتى يستوفي ما أنفق عليها بإذن القاضي .
هذا بعض ما يتعلق بمفهوم الحق ، أما التعسف فهو في اللغة مأخوذ من العَسَف وهو السير بغير هداية والأخذ على غير الطريق ، ويقال رجل عَسُوفٌ إذا كان ظلوماً ، والتعسف في الاصطلاح هو مناقضة قصد الشارع في تصرف مأذون فيه شرعاً بالأصل ، وتوضيح ذلك بما يلي :
1- مناقضة قصد الشارع أي مخالفته ، والمخالفة قد تكون مقصودة : بأن يقوم المكلف بالعمل المأذون فيه بصورة تؤدي إلى هدم قصد الشارع ، ويستعمل الحق لمجرد قصد الإضرار دون الالتفات إلى استفادته هو من ذلك أم لا ، مع أن الشارع الحكيم قصد في تشريعه للحق تحقيقَ المصالح وجلبَها ، ودفعَ المضار ودرأها ، كمن يهب ماله صورياً قرب حلول الحول قاصداً إسقـاط فريضة الزكاة .
وقد تكون المخالفة غير مقصودة بأن تأتي مآلات الأفعال الجزئية مخالفة للأصل الكلي في الحق ، والنظر في مآلات الأفعال معتبر ومقصود شرعاً ، وهو مما يمكِّن المجتهد أن يحكم على الأفعال ، كامتناع المحتكر بيع الطعام للناس مع حاجتهم إليه .
ففي هذه الحالة نرى الاختلال البيِّن في توازن المصالح ، أو انعدام التناسب بين مصلحة الحق والضرر الذي يحيق بغيره فرداً كان أو جماعة ، فاحتكار التاجر السلعة التي يحتاجها الناس تصرُّفٌ فيه نفعٌ محضٌ للتاجر من حيث زيادة ربحه بزيادة سعر السلعة ؛ لكنه في الوقت ذاته ضررٌ عام يلحق بالناس . فإذا وازنَّا بين المصلحتين ، مصلحة التاجر في زيادة ربحه ، والضرر الذي يسببه المحتكر للناس ، فإننا سنرفع ضرر المحتكر ببيع سلعته جبراً عليه بسعر المثل ، ولذا نصت القاعدة الفقهية على أن الضرر الخاص يتحمل دفع الضرر العام .
2- في تصرف : والتصرف يشمل التصرف القولي كالعقود وما ينشأ عنها من حقوق والتزامات ، والتصرف الفعلي كاستعمال حق الملكية في العقارات كالأراضي والمباني ، أو استعمال السلطة والنفوذ .
3- مأذون فيه شرعاً بحسب الأصل : أي أنه مباح أصلاً ، أما التصرفات غير المأذون فيها شرعاً فالإتيان بها يعتبر تعدياً لا تعسفاً .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي/ قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت