على غير رأي الناس حيث ينعتونني بعدم الدراية وقلة الحيلة وانعدام الفهم، إلاّ أنني كنت أعتبر نفسي واحداً ممن يوصفون بالذكاء والفطنة وعلى قدرٍ عالٍ من الحنكة والبصيرة، ولكني لا أجد جواباً حين كان الناس (دائماً) يصدقون. فقد كنت أنقلب على أم رأسي في كل مرة اعتقدت فيها جازماً، بأني على درجة عالية من التمكّن وأكثر ثقةً حين الإقدام على شيء ما، خاصةً فيما يتعلّق بأمور رئيسة ومصيرية.
عرض ذات مرة أن تقدمت لأحد الامتحانات الجامعية الأولى، وكنت قد بدأت استعمال جميع الوسائل المعدّة لهذا الغرض، والتي من شأنها أن تعمل على استحضار مواد الذكاء والفهم والفطنة وخلافها، ليس لنيل درجة النجاح فقط، ولكن لأقناع أستاذ المادة بما أنا عليه، ولتحفيزه على إعطاء أعلى الدرجات، برغم علمي المسبق بأنه- جلدة- بحيث يتعذّر الحصول منه على شيء، وكان تاريخه الجاف حاضراً لدى الجميع من الطلاّب في هذا الشأن.
من النظرة الأولى، كنت لمحت في رأس الصفحة، عبارة تحمل أسلوب الأمر تقول: أجب عن أربعة أسئلة من خمسة. ولمّا كان السؤال الأول طويلاً ويتكوّن من ألف وباء وجيم ودال وأكثر من ذلك، رأيت تركه ومضيت في الأسئلة الأربعة التالية، وقد كانت تحت المقدرة والاستطاعة لسهولتها من ناحية، ولدرجة الاستعداد الكافية التي كنت عليها في حينها. وكانت الطامة الكبرى، عندما تنبّهت إلى أن السؤال الأول كان إجبارياً، حيث لم أكن قد قرأت العبارة إلى نهايتها. وسادت الانتكاسة العظمى، عندما أعلنت عن حسن نيّتي، وقال لي الأستاذ: راسب !
اتفاق أوسلو الذي جرى التوقيع عليه في أوائل أكتوبر 1993، كاتفاق سلام ينهي الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، للوهلة الأولى بدا جميلاً وسهلاً، برغم معارضة بعض الفصائل عليه ولكن كان عزاؤهم في بلوغ درجة (سنغافورة) من الرقي والتقدم خلال وقتٍ منظور. حيث نصّت مبادئه على إجراء مفاوضات للانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية والقطاع. وتبدأ على مرحلتين، الأولى: منذ اللحظة الأولى على التوقيع وتنتهي بعد ستة أشهر، وفيها تجرى مفاوضات تفصيلية حول الانسحاب الإسرائيلي من القطاع ومدينة أريحا في غضون شهرين، ويجري انتقال سلمي للسلطة من الحكم العسكري والإدارة المدنية الإسرائيلية إلى ممثلين فلسطينيين تتم تسميتهم لحين إجراء انتخابات المجلس الفلسطيني.
والمرحلة الثانية: وهي الانتقالية والتي تبدأ بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع وأريحا، وتستمر لمدة خمس سنوات يتم التفاهم خلالها على الوضع النهائي بالنسبة للقدس، والمستوطنات، واللاجئين، والترتيبات الأمنية، والحدود وغيرها، ومن ثمّ إعلان الدولة الفلسطينية في العام 1999.
الآن وبعد عقدين كاملين من المفاوضات الشاقة والمبادرات المختلفة، لم يتمخض خلالهما سوى تكريس وتعميق الاحتلال والاستيطان والسيطرة الاستراتيجية الصهيونية على كامل الأراضي الفلسطينية، ولم يتمكن الجانب الفلسطيني من بلوغ الهدف الذي كان ينشده في إقامة دولته، وبقي يلجلج في بحور يهودية مزعجة، وتبيّن له بأنه تعجّل في الإمضاء والتوقيع دون قراءة بقية العبارة وتقليب ما بين السطور، على الرغم من علمه المسبق بالنوايا الصهيونية والخداع اليهودي منذ عمق التاريخ. وقد تبيّن فيما بعد، وفق حقائق الأمر الواقع لدى الكثيرين من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على حدٍ سواء، على أن ( أوسلو) خدم مرحلة ما، وأنه الآن ليس على شأن ولا يُعتبر قائماً، بسبب أن الوقائع على الأرض والأحداث والمواقف تجاوزته وأصبح خلفها.
كبار مهندسي أوسلو اعترفوا صراحةً، بأن الاتفاق كان خطأً. أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية "ياسر عبد ربّه" قال بعد كل هذه المدّة، بأن السلام مع إسرائيل غير ممكن، وأن المفاوضات عقيمة، بعد أن أيقن ذلك تمام اليقين، وبعد أن شعر بتطابق الأفكار كما أول مرة، بتخلّي شريكه "يوسي بيلين" من الجانب الإسرائيلي، الذي قال في فترةٍ سابقة بأن اتفاق أوسلو لم يعد ذا صلة. كما طعن في هذه الأيام في جدوى خطة الدولتين، وأنّه يجب على الجانبين التطلع إلى ما بعد هذا الاتفاق.
لقد وجد الفلسطينيون أنفسهم في هذه الفترة، في وضع أسوأ بكثير من الوضع الذي بدأوا فيه، حيث استمر الاستيطان على أجزاء واسعة ومهمّة على الأراضي الفلسطينية، وتزايد عدد المستوطنين الإسرائيليين إلى أضعافٍ مضاعفة، وزيادة التمسك باشتراطات جديدة، وأهمها (يهودية الدولة) وعدم التنازل عن مدينة القدس كعاصمة للدولتين، دون الالتفات إلى القوانين والمعاهدات الدولية.
أثناء تولي "بنيامين نتانياهو" الحكومة الإسرائيلية، هاجم بشراسة اتفاق أوسلو، وبيّن مساوئه وأعلن عن فشله، ومن جهةٍ ثانية عمل مساعيه على البناء الاستيطاني، وأخذ على عاتقة بضرورة أن يتجه الفلسطينيين إلى خفض مستوى طموحاتهم إذا ما أرادوا التوصل إلى حل.
نجح "نتانياهو" إلى حدٍ ما، في إنفاد وعوده التي قطعها من حيث مواصلة الاستيطان رغم غضب المجتمع الدولي وأمام المرغّبات الأمريكية، كما تمكن من رفض كل المبادرات الدولية بما فيها المبادرة العربية، مستنداً في سياسته إلى منطق القوة والاستخفاف وفرض سياسة الأمر الواقع وإجبار الفلسطينيين والعرب على التأقلم مع سياساته. وحصل بالفعل على المزيد من التنازلات العربية والفلسطينية وأهمها استئناف العملية السياسية دون الشروط التي كانوا يتمترسون خلفها بشأن العودة إلى المفاوضات.
وفي ضوء هذه المعطيات السيئة بالنسبة لنا، فقد انتبهت العديد من الفصائل والحركات الفلسطينية، التي تمثّل أطياف الشعب الفلسطيني، بما فيها أطرافاً مهمة داخل حركة فتح، إلى أن أوسلو قد انتهى، وأن التفاوض في إطاره يُعد مضيعةً للوقت. وطالبت بالتخلّي عنه وبالانسحاب الفوري من المفاوضات الجارية.
لكن هناك من بقى على إيمان، بأن أوسلو ما زال قائماً ومتماسكاً، وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" الذي لا زال يؤمن بالسلام مع إسرائيل، ويأمل بتسويةٍ ما، خلال التسعة أشهر القادمة، كما أن السيد "أحمد قريع" أكّد على أهميّة اتفاق أوسلو، وسعى بالمدافعة عنه باعتباره لايزال يحكم العلاقة القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وعلى كافة المجالات وعلى رأسها المستوى الأمني. وأن بإمكان الرئيس "عباس" توقيع اتفاق سلام مع الجانب الإسرائيلي وتبني قرارات تاريخية، وإن لم تحظ هذه القرارات بالشعبية.
ولا شك، فقد أدى اتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقات جزئية ومكملة إلى بروز إشكالات مختلفة على صعيد الفكر السياسي الفلسطيني تتعلق بأهدافه وبنيته السياسية والتنظيمية المعبّرة عنه. وتجلّت في جملة من التناقضات الكبيرة، والتي نتج عنها الكثير من الاختلافات في الرؤى والأفكار في الشأن السياسي بشكلٍ عام، وفيما يتعلق بمصير القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، حيث تسعى الأطراف الفلسطينية المتباينة إلى إثبات قناعاتها واعتقاداتها للأطراف الأخرى، أمام عدوٍ واحدٍ صدود، لا يفتر ولا يلين.
خانيونس/فلسطين
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت