التوك توش

بقلم: أسامه الفرا

بين عشية وضحاها ازدحمت شوارع غزة بالقادم إلينا من الشرق «التوك توك، وإن كان التوك توك» قد بدأ في الدول الآسيوية المكتظة بالسكان كوسيلة نقل للأفراد، فإنه جاء إلينا بمهمات مختلفة، لعل في مقدمتها نقل البضائع وخلافه، المهم أن «التوك توك» فرض ذاته على المشرعين في الدول التي تواجد فيها، فبين مؤيد ومعارض له بفعل غياب وسائل الأمان فيه، صيغت القوانين التي تضبط وتقنن استخدامه بالحد الأدنى، فعلى سبيل المثال في مصر يمنع استخدامه في مراكز المحافظات، فيما السودان منعته من عبور الكباري، ولدينا دخل وبرطع في الشوارع دون استئذان كون المجلس التشريعي كان «وما زال» يغط في سباته العميق، وإن أسهم في خلق العديد من فرص العمل إلا أن المخاطر المترتبة على استخدامه تبقى الهاجس الأكبر.
بذات الطريقة التي قدم إلينا فيها الضيف الشرقي، جاءنا ضيف سحنته غربية تربع على الفضائيات العربية، برنامج التوك شو «Talk show"، وهو برنامج حواري عادة ما يوصف بالسخونة، وحرارته ليس لها علاقة بما يقدم فيه من معلومات وتحليل ممنهج ووضع حلول لمشكلة يعاني منها المجتمع، بقدر ما ترتبط بخروج الضيف وأحيانا المذيع عن النص، ويصل أحياناً لحد الغليان مع دخول الضيوف ومعهم مقدم البرنامج لملعب «الردح»، وقد يخرج البرنامج عن السيطرة حين ينتقل البرنامج في بعض الأحيان بالمشاهد إلى حلبة مصارعة، فيها من المقومات البدنية ما لا يتوفر في العقل والمنطق والحجة لأبطالها.
برامج «التوك شو» لدينا باتت ذات طابع استعراضي، سواء كان ذلك من قبل مقدم البرنامج الذي كثيراً ما يستغني عن ضيوفه، ليتنقل بين مواضيع شتى ما يجلب الدوار للمشاهد، أو أن يحول الضيف لمعلق على قائمة طويلة من الأحداث ويضيق عليه الخناق بعامل الوقت، حينها يتحول الضيف إلى معلق رياضي يصف دون أن يحلل ما يسجله العقل من صور متلاحقة، وإذا ما تعلق البرنامج بأكثر من ضيف برؤى متباينة، تصبح غاية كل منهما كيف يسجل هدفاً في مرمى الآخر، حينها يغيب الهدف ومعه الموضوع.
الأصل في برامج التوك شو أن يتوقف البرنامج عند قضية تهم المجتمع، يخضعها المقدم وضيوفه إلى التحليل والتمحيص، ولا يأتي ذلك بما يتضمنه البرامج من كلمات تخرج على عواهنها، بل بطرح فيض المعلومات المتعلقة بالقضية من جوانبها المختلفة، ليخرج البرنامج ومعه المشاهد برؤية ثاقبة للقضية محور النقاش وسبل الخروج بحلول عملية ومنطقية لها.
المثير أن برامج «التوك شو» لدينا تمنح ألقاباً لضيوفها من العيار الثقيل، أقلها وزناً المحلل السياسي وأكبرها حجماً الخبير الاستراتيجي، وهذه الألقاب معفية من الشهادات العلمية ولا تحتاج لخبرة عملية، فتقف مشدوها وأنت تتابع الغالبية منها، حيث التحليل سقط سهواً أو عمداً، والنظرة الإستراتيجية حتى وإن كانت من فئة قصيرة الأجل هي الغائب الأكبر، والحاضر هو القص واللصق.
اعتقد أننا أمام حالة يمكن أن نطلق عليها دون استحياء «ظاهرة التوك توش»، وهي على غرار ما فعل كاتبنا الكبير أميل حبيبي بالجمع بين المتفائل والمتشائم في روايته «المتشائل»، فظاهرة «التوك توش» تأخذ من مواصفات «التوك توك» الشيء الكثير لتغير بها الملامح الطبيعية لبرنامج «التوك شو»، فنصبح أمام مخلوق من فئة «التوك توش».

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت