العصبية القبلية وانعكاساتها على المجتمعات العربية

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج


لا أحد ينكر أن جين العصبية القبلية ما زال مُتوارثاً في النسل العربي، ينتقل من جيل الى جيل دون تأثره وانكماشه الملموس بتغيرات المعطيات الحياتية الجديدة المتسارعة، والعصبية القبلية سمة من سمات الحياة البدوية البدائية التي كانت سائدة في العصور القديمة، في زمن قست فيه الطبيعة على الإنسان في ظلال شح الموارد وسيادة وتقلبات الأحوال المناخية الحارة تارة والباردة تارة أخرى وما بينهما، نظراً لتفشي الجهل وتعطيل العقل عن الإختراعات والإبتكارات لتلبية الحاجات وتسهيل سبل العيش وتنويع مصادر الرزق التي أودعها الله في الأرض بسخاء وأودع في الإنسان عقلاً ليتفكر ويفكر ويسعى ويعمل ويخترع ويبدع، وانشغل الإنسان في تحصيل الرزق وتلبية حاجات الغرائز في تغييب للعقل وسيادة للغرائز مستلهماً في ذلك شريعة الغاب من عالم الحيوان، فكانت الغزوات بين القبائل من أجل النهب والسلب والسطو. وكان القوي يأكل الضعيف دون شفقة أو رحمة أو عذاب ضمير لأنه كان يُحل هذا الفعل لنفسه نظراً لغياب القيم والأخلاق. وقد استشرىهذا النمط من الحياة وكانت ظواهره في ذروتها قبل نزول آخر الرسالات السماوية على سيدنا محمد. والتي جاءت شاملة كاملة غير منقوصة وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية، والمعاملات وفض المنازعات وركزت في صلبها على مكارم الأخلاق، ودعت الناس للتعارف والتعاون فيما بينهم. ونزلت الرسالة الخاتمة على إنسان عربي كان يقطن في صحراء قاحلة، ويعيش في مجتمع قبلي من الطراز الأول، وسط نزاعات قبلية وصراعات مستمرة، وتفشٍ للجهل والجريمة والقتل والفقر والعوز. وغياب للأخلاق والقيم تحت سيادة قانون العشائر والقبائل التي تفرق بين الناس على أساس الإنتماء القبلي والشعوبي.
"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" صدق الله العظيم.
إذاً فهي رسالة مساواة بين الناس لا فضل لقبيلة على أخرى في الخلق، ودعوة للحوار والتعايش، بسلام فيما بينهم. وبدأت بتنظيم الحياة من الأسرة.
"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" صدق الله العظيم.
هي رسالة رحمة ومحبة وسكون وتفكر وإعمال للعقل. وانطلقت في تنظيم العلاقات المجتمعية على أساس من الحق والعدل والتراحم.
وتميزت حياة الإنسان العربي عن غيره بمزيد من الشقاء والمكابدة، حيث كان يعيش في الصحراء القاحلة، في مناخ عاصف مجنون متقلب. وكانت الجغرافية (الوطن) في ذهن العربي متحركة على العكس من الحياة الطبيعية المستقرة في الجغرافية (الوطن)، حيث كان يتنقل فيها العربي مع قبيلته من مكان الى آخر بحثاً عن الماء والعشب في سعيه للرزق، وكان يغزو وينهب ويسلب بدون وجه حق، لذلك لم يكن الإنتماء للمكان ذا شأن عند العربي، فكانت الأطلال غالبة في الأدب العربي الجاهلي، نظراً للحياة غير المستقرة في جغرافية متحركة في كل موسم. فلم يعلق مفهوم الوطنية في ذاكرة العربي القديم حيث كان جيناً متنحياً. وترسخ في ذهنه وذاكرته مفهوم القبليةكجين سائد متوارث.لقد كانت القبيلة تمثل له الملاذ والملجأ والسبيل لتحقيق أمنه وطعامه. لذلك كان ولاؤه للقبلية سائداً على ولائه للوطنية. لم يكن مفهوم الدولة لديه شأناً ذا معنى.
وقد تعاملت الرسالة السماوية مع العربي بناءً على تلك الظواهر التي كانت سائدة، وعاملته في الدعوة وكأنه مولود جديد لا يفقه شيئاً، وبدأت بعلاج تلك الظواهر بكل سلاسة ويسر وتدرج دون تعنيف أو إقصاء، في خطوات هادئة صابرة مبشرة وغير منفرة، ونزلت بلسان عربي معجز ومتفوق على اللسان السائد في ذلك العصر ومستعصٍ عن التقليد أو المحاكاة، فكان فيها ضرب الأمثال من الطبيعة، وسرد القصص الغنية بالمعاني السامية، وكانت في جلها تحض على مكارم الأخلاق، وعلى جزاء العمل الصالح، وعلى الرحمة والتراحم والتعاون وإعمال الفكر وإقرانه بالعمل لتحقيق مزيد من الرخاء والعيش الكريم في ظل سيادة القانون الذي لم تغفله الرسالة السماوية من تشريع، وكان فيها حلاً شاملاً وشافياً لكل المعاناة والمكابدة التي كان يعيشها العربي. وامتدت الى فض المنازعات على أساس من الحق والعدل والمنطق. وامتدت الى تنظيم علاقات القبائل والشعوب فيما بينها.
بدأت تباشير الدعوة لعبادة الله والتحرر من عبادة الأوثان منذ غزوة أبرهة الأشرم للبيت الحرام بمكة المكرمة في عام الفيل، ونهب وسلب فوقف في وجهه سيد قريش عبدالمطلب جد الرسول قائلاً له عندما هدده بهدم البيت" أعد الحقوق لأصحابها، للبيت رب يحميه" حيث تدخلت مشيئة الله وقدرته على هزيمته هزيمة نكراء، وحفظ البيت الحرام من الهدم، وبعد ذلك انطلقت الحملات التجارية بين الجزيرة العربية من جهة والشام واليمن من جهة أخرى في الإنتقال من الحياة البدوية البدائية بقوانيها القبلية الى الحياة المدنية التي تنوعت فيها الأرزاق بالسعي والعمل، واختفى الفقر، وساد الإستقرار والأمن، نظراً للرخاء الإقتصادي، وانفتح المجتمع على غيره من المجتمعات الأخرى في تبادل للمنافع والمصالح، مصداقاً لقوله تعالى:
" لإيلافِ قريش إيلافهم، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، فبعد أن حررهم الله من الخوف بصد العدوان ومن انعدام الأمن نظراً لانشغالهم بالتجارة وترك الحروب القبلية، طلب منهم إعمال العقل وترك عبادة الأوثان، وعبادة الخالق رب كل العباد. فاستقروا في الجغرافية ( الوطن)، وبدأت المصالح الوطنية العامة تعلو على المصالح القبلية الخاصة، وتقلص قانون القبائل لصالح نظام سياسي مدني تجلى في أوجه في دولة المدينة المنورة التي وضع أسسها صاحب الدعوة ومبلغ الرسالة السماوية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في وثيقة دستورية محكمة تقوم على المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وتشكل مفهوم الوطن المستقر، الذي يضم على أرضه العقائد المتنوعة، والقبئل المختلفة، والأعراق والأصول المبعثرة، والتقت مصالح الجميع في ظل سيادة قانون ينظم العلاقة بينهم، حيث ساوى بينهم في الحقوق الوطنية، وترك لهم حرية العبادة والمعتقد والفكر في ظل الإحترام المتبادل بين كافة الأطياف. ومن اخترق القانون فقد أخل بالعهد وسيعرض نفسه للعقوبة.
اليوم وقد استقر الناس في أوطانهم، ويتنقلون داخلها سعياً وبحثاً عن الرزق، وتشكلت الدول والدساتير المدنية في تلك الأوطان، في إطار الرسالات السماوية وضمن خطوطها الحماراء، وتشكلت أجهزة حفظ الأمن، وأجهزة القضاء التي تفض المنازعات بين الناس، لم يعد للقبيلة أو الحزب أو الطائفة أو العرق دور تقوم به تجاه الأمن وتحصيل الحقوق. ولم يعد للفرد أو القبيلة التي ينتمي إليها أن يقتص لنفسه أو تقتص القبيلة له حقه ممن اعتدى عليه، ولم يعد جائزاً له أن يطبق القانون من منظوره الشخصي.
ولكن السؤال الملح الذي يطرح نفسه على المواطن العربي " لماذا نجحت الأمم في ترسيخ مفهوم الدولة المدنية ونحَّت قوانين القبائل والأحزاب وأعملت قانون الدولة، وفشل العرب في ذلك الى هذا التاريخ، ولم تذب المفاهيم القبلية والطائفية والحزبية والعرقية في محلول الوطنية، ولماذا ما زلنا نشهد احتراباً واقتتالاً بين الطوائف والأعراق والأحزاب والقبائل؟
الجواب:
إن أنظمة الحكم في الأوطان العربية لم تنجح في ترسيخ الوطنية، وإذابة ونبذ العنصرية القبلية والدينية والحزبية للأسباب التالية:
• لا أحد يغفل تقسيمات الأوطان العربية السياسية والجغرافية على قاعدة سايكس بيكو من مستعمرين وهبونا استقلالاً منقوصاً للحفاظ على نفوذهم ومصالحهم، ورسخ المقسمون بناء على دراستهم للنفس العربية المفاهيم القبلية في المجتمعات العربية، حيث نشأت كيانات عربية هشة عسكرياً وإقتصادياً على أساس أنظمة حكم قبلية، وحزبية توارثت العصبية القبلية وطبقتها في إطار الحزب، فأمين الحزب يبقى أميناً له حتى وفاته، وربما يرثه إبنه من بعده، وانعدم في هذه الكيانات التكامل الإقتصادي للرقعة الوطنية، لقد كانت قسمة خبيثة ضيزى، وقامت دساتير حكم على محاصصة السلطة الحاكمة بين الطوائف والأعراق على أسس هذه التقسيمات في إغفال للكفاءة والملاءة.
• العامل الأهم هو فشل الأنظمة العربية في تحقيق تنمية إقتصادية توفر العيش الكريم لمواطنيها، مما خلق تنوعاً في طبقات المجتمع، يفصل بين كل طبقة وأخرى هوة واسعة في مستوى المعيشة والدخل، ويثير مشاعر السخط والحقد والحسد، ويجعل الأمن المعيشي والأمن الذاتي في مهب الريح، ويعيق تطبيق الديمقراطية والحريات. فلا ديمقراطية ولا حريات في ظل الفقر والجوع وانعدام الأمن بكل نواحيه.
• تكوين أنظمة أمنية وجيوش بعقيدة تصب في جل أهدافها لصالح بقاء النظام الحاكم وحمايته في المقام الأول، وتغليب أمن النظام على أمن الوطن والمواطن. فيصطدم الأمن مع المواطن وتنشأ بينهما عداوة تحت عنوان الأخوة الأعداء داخل الوطن الواحد. مما يفقد ولاء المواطن للدولة.
من هنا تراجع مفهوم الدولة لصالح مفهوم القبيلة في الأوطان العربية، وطغى مفهوم القبلية على مفهوم الوطنية، نظراً لدور القبيلة والحزب والطائفة وعلو كعبها على الدولة في توفير حياة ومعاش للمواطن في مخالفة واضحة لقانون الدولة الذي لا يُحترم، وتغض الدولة بصرها عن ذلك تحت ضغط وقوة التيارات القبلية والكتل الحزبية الفاعلة والطائفية المسيطرة خوفاً من زعزعة كيانها المتململ تحت الضغوطات الإقتصادية والأمنية والإجتماعية لعدم توفيرها الحياة الكريمة والأمن لمواطنيها.ولوجود بطحة على رأسها تحسس عليها دوماً. لأنها تدرك ذلك، ولا تتنازل لغيرها عن السلطة والحكم الذي تعتبره هبة من الله يجب الحفاظ عليها حتى الموت وتوريثه للورثة وكأنها تركة.

بقلم أحمد ابراهيم الحاج
19/9/2013 م

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة قدس نت