هذا هو الإسلام
يوم عرفة وأيام العيد
وما زلنا نحيا في ظل عشر ذي الحجة الأُوَل ، فاليوم ثامنها ؛ وهو يوم التروية : حيث يبدأ وفد الرحمن وضيوفه التوجه إلى صعيد عرفات الطاهر لأداء الركن الأعظم لفريضة الحج وهو الوقوف بعرفة ، أي الحضور والوجود فيه : في أرضه أو فضائه على أيّ حال .
ويوم غدٍ تاسعها ؛ وهو يوم عرفة ، فيه تفتح أبواب الرحمة ، قال صلى الله عليه وسلم { ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء فيقول : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين ، جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي ، فلم ير يومٌ أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة } رواه ابن حبان . وهو موسم للبر والخير ، والتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحات ونوافل العبادات :
فيستحب لغير الحاج صيامه لفضله على سائر الأيام ، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صيامه فقال { يكفر السنة الماضية والباقية } رواه البخاري ، وقال أيضاً { صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده } رواه مسلم ، فلعلّ الله سبحانه كذلك أن يعصم الصائم من الذنوب والآثام ، ولكن يحرم صيام يوم الأضحى وأيام التشريق الثلاثة التي تليه : الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة لقوله صلى الله عليه وسلم { أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رواه مسلم ، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه { هَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِفِطْرِهَا وَيَنْهَى عَنْ صِيَامِهَا } رواه أبو داود .
ومن السُّنَّة الإكثار من الدعاء يوم عرفة والإلحاح بهِ والرجاء والتضرع إلى الله تعالى ، أما الصمت والسكوت عن الدعاء فليكن للاشتغال بذكر الله ، فإنه أعظم وأعلى أجراً وجزاء من الدعاء ، وبالأخص إذا كان معه خشوع القلب وحضور الفكر ، جاء في الحديث القدسي { من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين } رواه الترمذي
وفي الذكر تزكية للنفوس وتطهير للقلوب وإيقاظ للضمائر ، فهو لا ينحصر فيما يجري على اللسان ، بل يشمل ما يستحضر في القلب من تسبيح وتهليل وتحميد وثناء على الله عز وجل ووصفه بما هو أهله من صفات الكمال ، قال تعالى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ } الأعراف 205 . وهو رأس الأعمال الصالحة ، فقد { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ، فمرني بأمر أتثبت به ، فقال : لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل } رواه أحمد . وهو من ثمرات النظر والتدبر في آيات الله القائل { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } آل عمران 191 ، فالذاكر حين ينفتح لربه جَنانه ويلهج بذكره لسانه يمده الله بنوره فيزداد إيماناً إلى إيمانه ويقيناً إلى يقينه ، فيسكن قلبه للحق ويطمئن به قال تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد28 .
وتستحب هذا اليوم الأذكار المأثورة ، كالتهليل لقوله عليه الصلاة والسلام { جددوا إيمانكم قيل يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا قال أكثروا من قول لا إله إلا الله } رواه أحمد ، والتسبيح لقوله عليه الصلاة والسلام { كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم } رواه البخاري .
وإنها لفرصة ثمينة سانحة للتوبة والاستغفار ، فإن الاستغفار برهان التوحيد والإيمان ، والتقرب إلى الرحمن قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل { يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي } رواه الترمذي ، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب ، قال تعالى على لسان رسوله هود عليه السلام { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } هود 52 .
أما بعد غدٍ فعاشر ذي الحجة وهو يوم النحر ، عيد ومكافأةٌ من الله تعالى لعباده الذين يبتهجون بأداء ركن الإسلام ، ويتقربون فيه إلى ربهم بصلاة العيد ، فلْنحرصْ على أدائها شكراً لله عز وجل ، ولْنحرص على خروج الجميع لحضورها إظهاراً لشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام ، وهي سنة مؤكدة واظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان يخرج نساءه وبناته يوم العيد ليشهدن الصلاة .
ويستحب للمسلم يوم العيد أن يغتسل ويتطيب ويتجمل ويلبس أجود ما لديه عند الخروج إلى صلاة العيد لقوله تعالى { يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الأعراف 31 ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى ويلبس بُرْدَيْ حبرة ، وروت عائشة أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال " ما على أحدكم أن يكون له ثوبان سوى ثوب مهنته لجمعته أو لعيده ! " ، ثم يكبر ، ويبدأ وقت التكبيرات بالخروج إلى صلاة العيد ، وينتهي وقتها بعد صلاة عصر اليوم الثالث من أيام التشريق أي أنها تستمر أربعة أيام .
ويوم النحر يذكرنا بالفداء والتضحيات الجسام التي قدمها أحرار الأمة وشرفاؤها المؤمنين بالله عز وجل دفاعاً عن دينهم وعقيدتهم ومقدساتهم ، يوم يذكرنا بقصة الذبيح إسماعيل وأبيه إبراهيم عليهما السلام اللذين استسلما لأمر الله ففداه سبحانه بالذبح العظيم ، فكانت درساً للمؤمنين في كمال الطاعة والانقياد لربهم ، وهي سنة نبوية وشعيرة دينية يتقربون بها إلى ربهم جل وعلا ، ويبدأ وقتها بعد صلاة العيد لا قبلها ؛ قال تعالى { فصلِّ لربك وانحر } الكوثر2 ، وقال صلى الله عليه وسلم { من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين } رواه البخاري ، ويَنتهي وقتها بغروب شمس اليوم الثالث عشر من ذي الحجة .
ويستحب للمضحي أن يشهد أضحيته ؛ قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها { قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته ؛ وقولي { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } رواه البيهقي .
ويستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته ويدخر ويتصدق , قال تعالى { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون } الحج 36 ؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم { إذا ضحى أحدكم فليأكل من أضحيته } رواه أحمد . والأفضل له أن يتصدق بالثلث ويتخذ الثلث لأقاربه وأصدقائه ويدخر الثلث لنفسه وعياله , وله أن يهب الفقير والغني ، ولو تصدق بها جميعاً جاز وكان خيراً له ، ولو ادخرها جميعاً جاز له لأن القربة إلى الله تعالى فيها تكون بإراقة الدم .
وتستحب التهنئة بالعيد لأن التهنئة تكون بكل ما يسرّ ويسعد الإنسان في دينه ودنياه مما لا يخالف شرع الله تعالى ، ومن قُبلت طاعته في يوم كان ذلك اليوم عليه عيداً مباركاً ؛ لذا يقول المسلمون لبعضهم : عيد مبارك عليك أو أحياكم الله لمثله . وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا التقوا يوم العيد يتصافحون ويهنئون بعضهم بقولهم تقبل الله منا ومنك . فليهنىء بعضنا بعضاً بالعيد ولنتصافح فيما بيننا ، فبالمصافحة تَتَحاتُّ الخطايا والذنوب .
ويفرح الأرحام بزيارة أقاربهم ، فالتزاور وصلة الأرحام عنوان الأخوّة والتماسك في المجتمع الإيماني ؛ والصلة هي الإحسان والعفو عمن أساء ؛ وتكون بكل ما يسمى به المرء واصلاً كالزيارة والمعاونة وقضاء الحوائج بل حتى بالسلام ، وكذلك ببذل المال للأقارب إن كان مقتدراً فهذا يحقق التكافل فيما بينهم لقوله تعالى { وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } الأحزاب 16 ، وهو أيضاً صلة لهم لقوله صلى الله عليه وسلم { الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة } رواه الترمذي ، وتتفاوت درجات الصلة بالنسبة للأقارب ؛ فهي في الوالدين أوجب ما تكون ، وليس المراد بالصلة أن تصلهم إن وصلوك فهذه المكافأة ؛ بل أن تصلهم وإن قطعوك ، قال صلى الله عليه وسلم { ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمه وصلها } رواه البحاري ، ومن آثارها نيل رضا الله وإطالة العمر وزيادة الأجر ؛ قال صلى الله عليه وسلم { من سره أن يُبسط عليه رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه } رواه البخاري .
وصلة الرحم لا يقصد بها الإحسان إلى الأقارب من النساء فقط بل هي شاملة للرجال والنساء ، كما أن صلة المرأة لأقاربها من الرجال مستحبة مع أن حقها في الصلة آكد من حقهم .
وقطيعة الرحم المأمور بوصلها لغير عذر شرعي حرام ، لقول الله سبحانه { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } محمد 22-23 ، وتكون القطيعة بترك الإحسان ؛ أما إن تجاوزت ذلك إلى الإساءة فهي من الكبائر . فلنبادر إلى صلة رحمنا وزيارة أقاربنا استجابة لأمر ربنا وإحياء لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قال { لا يدخل الجنة قاطع رحم } رواه مسلم ، فإن هذه الصلة تعمق المودة والمحبة في النفوس ، وتقوي الوشائج الاجتماعية بين المسلمين . فحق علينا زيارة الأقارب والأصدقاء والجيران وأسر الشهداء والأسرى ، وأن ندخل الفرح إلى قلوب الأطفال .
وتلي العيد أيام التشريق الثلاثة ، وهي أيام فضيلة لقوله تعالى { واذكروا الله في أيام معدودات } البقرة 203 ، قال أكثر العلماء أنها أيام التشريق .
وذكرُ الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق يكون بعدة صور منها : ذكر الله عزَّ وجل عقب الصلوات المفروضة بالتكبير في أدبارها ، وهو مشروعٌ إلى آخر أيام التشريق عند الجمهور . وذكره بالتكبير عند رمي الجمار أيام التشريق ، وهذا يختصُّ به الحجاج . والذكر المطلق ، فإنه يُستحب الإكثار منه في أيام التشريق ، وقد كان عُمر رضي الله عنه يُكبر بمنى ، فيسمعه الناس فيُكبرون فترتج منىً تكبيراً . واستحب كثيرٌ من السلف كثرة الدعاء بهذا في أيام التشريق . وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صيامها فقال { أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رواه مسلم ، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه { هَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِفِطْرِهَا وَيَنْهَى عَنْ صِيَامِهَا } رواه أبو داود . فلْنغتنم هذه الأيام للذكر والدعاء والعبادة ما استطعنا ، ولْنتجنب قضاءها في المعاصي والآثام والملذات المحرمة
ندعو الله سبحانه أن يعيد هذه الأيام على الأمة بالنصر والعزة والتمكين وتقبل الله منكم الطاعات وكل عام وأنتم بخير
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]