قد لا يكون من المبالغة القول إن التاريخ الإنساني كله عبارة عن صراع طويل من أجل تحرر الإنسان وكفاحه كي يكون سيد نفسه، وتحرره من قيود استعباد البشر وحرمانه له من حقوقه وإجباره على أن يعيش ويفكر وفق نمط خاص يفرض عليه، ولطالما كانت العلاقة وثيقة طول التاريخ بين حرية الإنسان وتقدمه وتطوره، فالتجارب الإنسانية في مختلف العصور هي دليل قاطع على أن تقدم الإنسان وازدهار مستقبله وتطوره مرهون بتحرره من القيود التي تكبل حريته وفكره وحركته، وربما لم تخلُ حقبة على امتداد التاريخ البشري من جدل حول الحرية دعوة إليها أو اعتراض عليها، أو صراع بين المطالبين بها والمعارضين لها، ولا غرابة من ذلك أن يسجل تاريخ المعرفة البشرية قرابة 200 معنى لمفهوم الحرية قدمها باحثون في حقب تاريخية متفاوتة ومختلفة في ظروفها وأحوالها، وذلك لأنها تقع في قلب الحركة التاريخية وهي محور التجاذب بين الإنسان والإطار الاجتماعي الذي يعيش فيه والدولة التي يخضع لسلطتها.
يمكن اعتبار تلك المعاني المختلفة للحرية تعبيراً عن الظروف التاريخية المختلفة لها، وبعبارة أخرى يمكن القول إن الحرية مبدأ له مفهوم ثابت ينصرف عند الشرح والتوضيح إلى معانٍ وتطبيقات مختلفة، بعضها مطلوب ومحل اهتمام في جميع الأحوال والأوقات، وبعضها الآخر يبرز في ظرف معين من دون غيره، ففي بعض الظروف قد ينصرف المفهوم إلى التشديد على الحريات والحقوق المدنية، وتارة على الحريات السياسية، وتارة على العادات والتقاليد ،وتارة على التسامح الديني وهكذا، فالاهتمام ببعد معين من أبعاد الحرية، أو على عنصر محدد مما ينطوي عليه مفهومها، يمثل تعبيراً عن ضرورات أو إفرازات الحركة الاجتماعية في حقبة ما.
الحرية هي تتيح للإنسان تنظيم شؤون حياته في حق الاختيار الحر من دون خوف أو طمع أو نفاق أو مصلحة أو إكراه من أحد، وعلى النقيض من ذلك المجتمعات التي تصادر حرية الفرد وتنازعه وتشاركه في حق الاختيار الشخصي بوسائل الإكراه والتخويف، فإن تلك المجتمعات ولغياب مظاهر الاختيار والحرية الفردية تستشري فيها غالباً مظاهر النفاق والرياء والكذب، فيمارس الإنسان فيها أهواء ورغبات الأكثرية وليس اختياراته ورغباته الشخصية، ولن أخوض في ذكر المعاني والتفصيلات الفلسفية للحرية لكبار الفلاسفة التي سبقت الإشارة إليها، ولكن يهمنا عند الحديث عن مفهوم ومعنى الحرية الإشارة إلى ركنين أساسيين يجب توفرهما في مفهوم الحرية، هما غياب الإكراه والقيود التي يفرضها طرف على آخر، وتمام القدرة على الاختيار، فالإنسان الحر هو القادر على اختيار أسلوبه وطريقته في الحياة، وهو غير المرغم على اختيار ما لا يريد اختياره.
حرية الشباب مازالت مقيدة بالعادات والتقاليد، ولا أعتقد أن هناك مشكلة في ذلك، فحريتنا يجب أن تكون منضبطة وفق العادات التي تسود المجتمع، وبالتالي يمكن ضبط أخلاق الشباب والمحافظة عليها، لذلك أعتقد أن العادات والتقاليد لا تحد من حرية الشباب، وإنما تحاول ضبطها من التمرد والخروج عن الأخلاق والأعراف في المجتمع، وخاصة ان بعض العادات والتقاليد أصبحت (موضة قديمة) واصبح البعض يستعملها كشكل من أشكال التخلف .
فبمفهومنا ان العادات والتقاليد هي الطابع الذي تشكل شخصية متجذرة في التاريخ تجعلها تتمتع بهوية تمنحها اسما ومكانا مميزا في خانات الشعوب والأمم، ولا ترتبط هذه العادات والتقاليد بدين أو منطق أو تفكير ، بل يجب ان تكون فكرة نحو التحرر و إزالة القيود التي تثقل كاهل الإرادة البشرية وعنها ينجم مفهوم الحرية التي تكرس من جانب آخر معنى "العدالة" وتكافؤ الفرص لكل أبناء البشر، كما تعتبر زهرة تلمع ببريق الاطمئنان في النفس البشرية لما تبعثه فيها من ارتياح سيحرك مواهبها التي تكتسح قصورا للطموح بنتها في فكرها وستمكنها هذه "الجوهرة السحرية " من تحقيقها، إذ لا قيود تعوقها عن ذلك.
ومن هنا نرى ان التعبير عن حرية الرأي تواجه ضغوطات سياسية وفكرية شديدة تصل الى حد التهديد من قبل الحركات المتطرفة وأخرى من قبل الانظمة الاستبدادية , ولكن الانسان الحر والمستقل الذي رفض كل أشكال الاحتواء السياسي والفكري يواجه هذه الامور بوعي من خلال عدم الانسياق وراء تلك الادعاءات الزائفة و المظللة التي تروجها بعض الحركات الاسلامية .
ان قضية الحرية والديمقراطية من أهم وأكثر العوامل تأثيراً في حياة الشعوب، ودافعاً مهماً للتحركات الاجتماعية والسياسية. وغياب الحريات كان السبب الرئيسي للحراك الشعبي العربي إذ أن غياب الحريات وتكميم الافواه والتضييق على حرية التعبير قضية من شأنها ليس فقط تعميق التناقض بين الحاكم والمحكوم ، بل توسيع قاعدة الصراع في المجتمع بوسائل لا تخدم حرية وتقدم المجتمع وتعزيز مبدأ الحوار الذي يصبح أكثر فأكثر الاسلوب الأهم في تناول مختلف قضايا الحياة العامة. بينما، وفي ضوء المعطيات الموضوعية، فإن الضرورات تقتضي توسيع فرض الحوار المنطقي.
لهذا نرى ان الإنسان كلما تقدم في مسيرة الحرية أدرك أنه تناغم مع الآخر أكثر، وأدرك أن المسافات بينه وبين الآخر تضيق إلى درجة التماهي والانصهار والتوحد، وفي عالم الحرية ليس ثمة من يمكنه أن يدعي الحرص على الآخر، ويطلق أو يتبنى فكرة واحدة مهما قل شأنها لا يأخذ فيها بالحسبان مصلحة الآخر ويقدمها على مصلحته الذاتية ، الحرية تعلمنا أنّ مصلحتنا تتحقق عندما تتحقق مصالح الآخرين، وأنه لايمكن لمصلحة إنسان أن تتحقّق على حساب مصالح الآخرين ، ولا يمكن لمن يفهم معنى الحرية أن يكن مشاعر البغضاء للآخر لمجرد اختلافه معه في رأي أو فكر أو معتقد أو إيديولوجيا؛ بل الأحرار هم من يقدرون الاختلاف ويرون فيه مساحات تزيد آفاقهم الفكرية اتساعاً وثراء، كما يدرك هؤلاء الأحرار أن في اختلاف الآخر معهم حرصاً على وجودهم وصوناً له.
الحرية قيمة أخلاقية سامية، تعني تحرّر الذات من عقال أسر الجسد، والحرية بمفهومها المعنوي والوجداني تتجاوز المفاهيم السائدة والمتداولة، ولا شك في أنّ مسيرة الحرية تبدأ من الذات، وذلك عبر تمكينها من القدرة على التحرر من أسر الكثير من الارتباطات والعادات والتقاليد والممارسات والأفكار التي، في كثير من الأحيان، يكتشف الإنسان أنها لا تتوافق مع تكوينه النفسي والفكري والعضوي عندما يبلغ مرحلة النضج والقدرة على الحكم على منظومته السلوكية والفكرية من موقع المتحرر من قبضة الوصاية الأبوية والمجتمعية، وللإنسان حكاية كفاح طويلة من أجل بلوغ الحرية لكون الحرية تمثل كنهَ وسرّ وجود الإنسان على الأرض ، وكلما اقترب الإنسان من بلوغ هذا السر اقترب أكثر فأكثر من معرفة ذاته ووعيها ووعي سرّ الوجود الإنساني.
ان ما تتعرض له المرأة من أعمال عنف تنتهى بالقتل بحجة الدفاع عن الشرف وهى تهمة أبعد ماتكون عن الواقع، فالحقيقة أن هذة الجرائم تتم لأسباب اجتماعية ،فبصرف النظر عن النظرة التجارية للمرأة التى اسهبت فى الكلام عنها مع أنها جديرة بالاهتمام ، يحق لنا التساؤل ، لماذا نعاقب الضحيىه وهى الفتاة التى هتك عرضها بينما نترك الجانى حرا طليقا لا سلطان لأحد عليه ، والأجابة عن هذا التساؤل واضحة وضوح الشمس ، لهذا يجب علينا أن نبحث عن الحل الجدى والفعال الذى ينهى هذة الافات الاجتماعية المستشرية ، لكى نحافظ على كيان مجتماعاتنا بعيدا عن الأفكار الرجعية المتخلفة التى لا تتناسب والعصر الذى نعيشه ، فلا يليق بنا أن لا نضع فى الاعتبار في العمل على وضع القوانين التى ترتكب بحق الانثى بحجة الدفاع عن الشرف ووضع المجرم القاتل الذى فقد مقوماته الانسانية امام القضاء .
ان الدافع الدينى والأخلاقى لحماية النفس من الانحراف دافع حقيقى بعيدا كل البعد عن سيف المجتمع المسلط على رقاب نسائه ، وهذا يتطلب العمل الفعال للقضاء على جرائم التمييز ضد المرأة ، فالنساء شقائق الرجال، والمرأة هى نصف المجتمع ، وان المفهوم الأصلي لحرية المرأة هو أن تملك المرأة روحها وجسدها وكل مايتعلق بها مثل اختيار نمط حياتها واتخاذ قراراتها وتحديد مصيرها وهدفها في هذه الحياة وتكون هي المسؤولة الوحيدة عن نفسها بدون وصاية .
ان المرأة كاملة الانسانية ومكرمة في مجتمع أو ثقافة ويجب ان تكون الى جانب الرجل متساوية في الحقوق والحريات في قوانينهم الاجتماعية والدينية والقضائية وأن لها ماله وعليها ماعليه، فحرية المرأة بالمفهوم الحقيقي للحرية هو أن تملك المرأة ذاتها وأن تختار نوع حياتها وممارساتها اليومية بدون حارس شخصي كالرجل تماما وليس مفهوم الجسد السطحي ، ولهذا نرى اهمية ان تحتل المرأة موقعها، ليس في بيتها فحسب، وإنما أيضاً في المجتمع، بوصفها طاقة كبرى يمكن ان تسد نواقص كثيرة على المستوى الاجتماعي والوطني في بناء المجتمع الحديث.
وامام ما تقدم نرى محاولات تشويه المفاهيم بكل الأساليب واستغلال كل وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمقروءة والتواصل الاجتماعي والإصرار عليه لتسفيه الوعي الاجتماعي الإنساني وتزييف الاهتمام البشري وتشتيت الإدراك الحسي بتلك المفاهيم ودلالاتها التي وجدت من أجلها أو في سبيلها، وهذا ما ينبغي الالتفات له والانتباه والتحذير منه على المستوى الديني ، باعتبار ان الدين دين تسامح ومحبة ، ولهذا فإن تشويه هذه المفاهيم لا يمكن إلا ان يكون مخططا له ومطلوبا كما يبدو مع جهات وقوى الاستعمار الصهيو اميركية التي تخوض صراعاتها وتشن حروبها العدوانية في عالمنا العربي خصوصا، فتمارس ذلك وتعمل في سبيل تحقيق الأهداف منها. أي أنها تحولها إلى جزء من اساليب حربها المفتوحة العدوانية. وتترك لمستخدميها الفعليين ما يمكنهم من التعبير بوسائلهم المتبجحة والضالعة في خدمة اهدافها، حيث إن هذا التشويه، كما سبق الذكر، يشمل الوعي والذاكرة والتأريخ وصفحات النضال والشهداء والأجيال، ولا يعني المفاهيم ووحدها فقط بل ويتضمن ايضا قيمتها الفعلية وآثارها العملية.
بين هذه المفاهيم مفهوم الثورة والنضال التي كرس بالتضحيات في سبيل حرية الارض والانسان والنضال للتحرر من السيطرة الاستعمارية ، والاستغلال الداخلي بهدف تحقيق العدالة والمساواة وإطلاق قدرات الجماهير، وهذا يجب أن يجل ويحترم تاريخيًّا وواقعيًّا وعملا وخبرة ودروسا، بينما تضع بعض الابواق هذا المفهوم عنوانا لحلقات وبرامج تقدمها كل يوم بما لا يتوافق مع دلالاته ومعانيه وصورته وسجلاته، فيكشف الأهداف والمساهمات المطلوبة منها، فهي من جهة لا تؤمن مطلقا، وبحكم موقعها ومموليها، بمعنى هذا المفهوم ولا تقر بدلالاته، كما لا يعبر، كل ما يعرف عن مشاريع وخطط أصحابها ومموليها، عن حرص وصدق له. فما تقدمه وتبشر به وتروج له وبهذه الاشكال والأهداف يجعلها ضالعة ومشاركة فعلية، وما يزيد عليه تفاصيل فيما يخطط بعده وما يلحقه من تطورات أخرى تؤدي سلبا على مجتمعاتنا وعلى وحدة الامة .
ان دراسة الظواهر التي تجري اليوم، من خلال ما يسمى "الربيع العربي" قد انقلب إلى نقيضه، وخاصة ان بعض قوى الاسلام السياسي التي استخدمت الإحتياطي "الديني" و"المذهبي" لصرف نضال الشعوب عن مقاصدها من خلال تفجيرات هنا وهناك تؤدي إلى حرب أهلية وما يجري اليوم من تفجيرات تتسبب في سقوط عشرات الضحايا اضافة الى العنف الدموي التي تتم ممارسته على خلفيات طائفية أو عرقية أو إثنية أو مذهبية سواء في البلدان العربية الا دليلا على ان الصراعات في المنطقة واستمرارها على اسس طائفية دينية من شأنه أن يصب في مصلحة الكيان الصهيوني مباشرة ودون أي لُبس.
لهذا يجب استخلاص الدروس لان النضال من اجل الحريات الديمقراطية سيبقى هدفاً بارزاً وأساسياً في نضال الشعوب من اجل التقدم والحرية، بكلّ معانيها وتجلياتها السامية، وبما تمثل من حالة إيمانية تختزل الوجود الإنساني على الأرض وحقيقته، ببضعة شعارات لا يأخذون فيها بالحسبان سوى المصالح الضيقة التي تدل على أنهم لم يعوا الحرية التي يناضلون في سبيلها من أجلنا بعد.
ختاما نقول : ان حريتنا هي بوصلتنا ،وان حرية الرأي والتعبير عموماً تشكل إحدى الدعائم الجوهرية للمجتمع الديمقراطي، وهذا يتطلب من كافة الطاقات الإعلامية العمل من معالجة هموم المجتمع وحاجاته المتزايدة، وإعطاء مساحة واسعة من حرية التعبير بوسائله المختلفة من اجل حرية فلسطين الارض والانسان.
كاتب سياسي