إلى العائدين من الحج

بقلم: تيسير التميمي

هذا هو الإسلام
إلى العائدين من الحج

ها قد بدأ الحجاج بالوصول ، فهنيئاً لهم هذا الفضل العظيم من ربهم ، هنيئاً لهم أن أتموا مناسكهم وأدوا فريضتهم ، وحمداً لله على سلامة عودتهم ، والعاقبة لكل مسلم بعدهم أن يبلغ الديار المقدسة التي بلغوا .
الحج عبادة روحية وبدنية ومالية ، زَيِّنها الشرع بمحاسن الأخلاق والآداب والفضائل ، ومنها أن الحاج ينبغي له أن يكون بعد عودته خيراً مما كان عليه قبل ذهابه , بازدياد صلاحه وإقباله على الخير والبعد عن الشر , فهذا من علامات قبول حجه ، فإن لصلاح العمل آيات ولقبوله علامات ، وقد قال علماء السلف : إنَّ من علامات قبول الحسنة التوفيق للحسنة بعدها ، ومن علامات عدم قبول الحسنة أن تُتبع بالسيئة ، وعلامة بر الحج أن يزداد الحاج بعده خيراً ، وألاَّ يعاود المعاصي ، فهذا هو الحج المبرور الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم { الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } رواه البخاري ، ومن الحج المبرور الخالص المقبول عند الله تعالى أن يرجع الحاج زاهداً في الدنيا راغباً بالآخرة ، كيف وقد عاهد الله في المشاعر المقدسة على الاستقامة في الأقوال والأعمال والنوايا ، وعاهده على سلوك كل سبيل يرضيه وتجنب كل ما يغضبه ، فقد أعلن بالتلبية إقباله على الله وانقياده له ، وبالطواف أعلن تصميمه على التمسك بشريعته والعمل على إعلاء كلمته ، وبرمي الجمار أعلن محاربة قوى الشر والبغي والطغيان ، وبالنحر أعلن استعداده للتضحية والفداء في سبيل ربه ودينه ووطنه ، وبتقبيل الحجر الأسود عاهد الله تعالى على الالتزام بشرعه وهديه .
فلْيحرصْ الحاج على إرضاء ربه وطاعة أمره واجتناب نهيه ، وليحذر إبطال عمله وتضييع أجره ، وليحفظ ما أكرمه الله به من مغفرة الذنب وقبول التوب ، وليداوم على الاستقامة والعبادة ، وليلتزم تقوى الله ، قال تعالى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } المائدة 93 ، فهي خير زاد للروح والفؤاد ، وبالأخص إذا بلغت الإحسان ، وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان في العبادة بقوله { أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك } رواه مسلم ، أما الإحسان في المعاملة فهو مقابلة الإساءة بالإحسان ومقابلة الإحسان بأحسن منه ، قال تعالى { هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } الرحمن60.
وعليه ألاّ يقطع الصلة بهذه الهدية الثمينة التي أكرمه الله بها بمغادرته الأرض المقدسة ، بل يبدأ حياةً جديدة يكون فيها قدوةً ومثلاً للجميع في التزام الصالحات ، والمحافظة على الفرائض وترك المحرمات ، ومصاحبة أهل التقى والصلاح ، فتجديد المعاصي والذنوب والإصرار على نقض التوبة من أكبر الكبائر ، بل هو الكفر والردة بعينها ، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } النساء 137 .
وليبدأ الحاج الذي أحرم بنية التمتع أو القران إن لم يقدر على ذبح الهدي في منى بصيام سبعة أيام ، وذلك لقوله تعالى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } البقرة 196 .
وليكثر من الدعاء والذكر والشكر، قال تعالى { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } البقرة 200-202 .
ويفضل للحاج التعجيل في العودة وعدم إطالة الغيبة عن الأهل من غير حاجة بعد قضاء فريضته ، وأن لا يتأخر انشغالاً بما ليس مهماً ، فإذا بدأت رحلة عودته إلى الأهل والوطن والبلد والديار ؛ فمن أبرز أحكامها :
* يستحب له أن يدعو دعاء العودة من السفر فيقول { سُبْحانَ الَّذِي سخَّر لَنَا هَذا وَما كُنَّا لَهُ مُقرِنِينَ * وإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البِرَّ والتَّقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنَّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إنِّي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل ، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون } رواه مسلم .
* ويستحب للحاج إذا رأى بلدته أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا قفل من الحج أو العمرة { يكبر ثلاثاً ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون } رواه البخاري .
* ويحسن بالحاج والمسافر عموماً ألاَّ يقدم على أهله ليلاً إلاَّ إذا بلَّغهم بذلك وأخبرهم بوقت قدومه ; لقوله صلى الله عليه وسلم { إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً } رواه البخاري ، وما أيسر ذلك في الوقت الحاضر نظراً لتوفر وتطوُّر وسائل الاتصال وتنوعها .
* ويندب له أن يبتدئ بالمسجد الذي بجوار بيته ويصلي فيه ركعتين ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقدم من سفر إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين ويقعد فيه } رواه البخاري .
* فإذا دخل بيته يستحب له أن يدعو الله تعالى بقوله { توباً توباً لربنا أوباً لا يغادر علينا حوباً } رواه أحمد .
* ويستحب له أن يلاطف الأطفال والصغار من أهل بيته وجيرانه ، وأن يحسن إليهم إذا استقبلوه ، قال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقاه صبيان أهل بيته وإنه قدم من سفر فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه حتى دخلنا المدينة } رواه مسلم . أما المهنئين فيسن لهم ما يلي :
* أن يصافحه ويعانقه ـ إن لم يكن في ذلك ضرر ـ فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم { وجّهَ جعفر بن أبي طالب إلى بلاد الحبشة فلما قدم منها اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم وقبل بين عينيه } رواه الحاكم .
* ويندب له أن يدعو للحاج بقوله { تقبل الله نسكك وأعظم أجرك وأخلف نفقتك } رواه عبد الرزاق .
* ويستحب له أيضاً أن يطلب منه الاستغفار له . ويستحب للحاج أن يجيب طلبه فيدعو له بالمغفرة فإنه مرجو الإجابة لقرب عهده بالطاعة ، قال صلى الله عليه وسلم { اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج } رواه البيهقي .
* ويستحب للحاج تقديم الهدية وبالأخص للأطفال والخاصة من الأهل والأصحاب , فإن الأعين تمتد إلى القادم من السفر، والقلوب تفرح به ، وفي الهدية إدخال الفرح والسرور إلى قلوبهم ، وتعميق المودة والمحبة تطييب القلوب وإزالة الشحناء , ويستحب قبولها والإثابة عليها بالدعاء له , ويكره ردها لغير مانع شرعي ، قال صلى الله عليه وسلم { تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء } رواه مالك ، وكان صلى الله عليه وسلم { يقبل الهدية ويثيب عليها } رواه البخاري . ولكن ينبغي تجنب الإسراف فيها أو تكليف النفس فوق طاقتها ، والأفضل تخير الهدية مما ينتفع به . وأشهر هدايا الحجاج ماء زمزم لمن استطاع حمله ، قال صلى الله عليه وسلم { إنها مباركة، إنها طعام طعم } رواه مسلم .
لكن القادمين من الحج أو العمرة اعتادوا تقديم الكثير من الهدايا غير النافعة للوفود التي تحضر لتهنئتهم والسلام عليهم ، والتي تكثر بكثرة ما يهنئون من الحجاج ؛ كالمصاحف الصغيرة التي تتعذر القراءة منها فتصبح مهجورة ، وهذا ما حذر منه القرآن الكريم بقوله تعالى { وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } الفرقان30 ، وكسجاجيد الصلاة التي تتكدس عند الزوار الذين يندر استخدامهم لها في صلاتهم ، وكالمسابح والمساويك التي لا يواظب كثيرون اليوم على استعمالها ، وأمثال ذلك مما يعتبر إهداراً للأموال العامة والخاصة بغير طائل إلاَّ الدعاء الوقتي للحاج ، ثم يؤول الأمر إلى النسيان .
لكن معظم القادمين من الحج أو العمرة اعتادوا تقديم كثيراً من الهدايا غير النافعة للوفود التي تحضر لتهنئتهم والسلام عليهم ، والتي تكثر بكثرة ما يهنئون من الحجاج ؛ كالمصاحف الصغيرة التي تتعذر القراءة منها فتصبح مهجورة ، وهذا ما حذر منه القرآن الكريم بقوله تعالى { وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } الفرقان30 ، وكسجاجيد الصلاة التي تتكدس عند الزوار الذين يندر استخدامهم لها في صلاتهم ، وكالمسابح والمساويك التي لا يواظب كثيرون اليوم على استعمالها ، وفي هذا ومثله إهدار للأموال العامة والخاصة بغير طائل إلاَّ الدعاء الآنيّ للحاج ، مما يؤثر على الوضع المعيشي للناس عموماً ؛ فالمال عصب الاقتصاد الوطني الذي يسهم في النهوض بالبلاد وأهلها .
ويسن للقادم من الحج جمع الأصحاب والأقارب والأرحام وإطعامهم عند القدوم من السفر { فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نحر جزوراً أو بقرة } رواه البخاري . وينبغي للحاج ألاَّ يغالي في هذه الوليمة أو يبالغ في نفقاتها أو يجعلها للرياء والمباهاة .
وفي هذه الظروف الاقتصادية والحصار الظالم المفروض على شعبنا حري بنا الاتصاف بالتوسط والاعتدال في هذه النفقات ، وبالأخص أن كثيراً من الناس في الظروف العادية يحجمون عن أداء فريضة الحج ويحرمون أنفسهم من ثواب هذه العبادة بسبب التكاليف الباهظة التي ترافقها ؛ من هدايا وولائم ونفقات لا مبرر لها إلاَّ العادات والتقاليد التي ألزموا أنفسهم بها فأصبحت من الواجبات التي تثقل كاهلهم وتعرضهم للانتقاد إن هم قصروا فيها ، وتكلفهم ما لا يطيقون ، قال تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } البقرة 286 .
ومن أراد الثواب ومضاعفة الجزاء ؛ فلينفق هذه المبالغ على المساكين والفقراء الذين يعانون من البأساء والضراء ، فهذا هو التكافل بين المؤمنين الذي أوجبه عليهم الدين في الطوارئ والكوارث والنوازل .
ومما اعتاد عليه الناس المحتفلون بعودة الحجاج أو الأعراس إطلاق أعيرة الذخيرة الحية أو الألعاب النارية والمفرقعات ، فنناشد الجميع الإقلاع عن هذا السلوك السلبي الخطير ؛ الذي يدخل الفزع في قلوب المرضى من المسنين ، ويرعب الآمنين ، فإطلاق النار واستعمال السلاح إنما هو للحرب والجهاد ، ولا يكون في الأمن والأفراح .
* ويستحب للحجاج المحافظة على علاقاتهم مع بعضهم ما أمكنهم ذلك ، فلا شك أن المجموعة التي حجت معاً توثقت العلاقات الطيبة بين أفرادها ، إذ إن الحج ليس سفراً كسائر الأسفار، فلا بد من تعميق الاتصال أياً كان نوعه بينهم للإبقاء على ذكريات الحج ماثلة في أذهانهم وقلوبهم وأرواحهم .
وفي الختام نتمنى لحجاجنا عوداً محموداً لأهلهم ، ونقول لهم : تقبل الله منكم ، وجعله حجاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً ، وتجارة لا تبور ، ونسأله سبحانه وتعالى أن يغمر الجميع بفضله وكرمه ورحمته التي وسعت كل شيء .


الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين/رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً
www.tayseer-altamimi.com ، [email protected]