قال الإمام محمد عبده حين سافر لبلاد الغرب: (أحزن حين أرى مسلمين بلا إسلام "بلاد العرب"، وأرى إسلاماً بلا مسلمين "بلاد الغرب")، تعبير عن واقع البلدان العربية التي تَدين بمجملها بِدين الإسلام، والإسلام بجوهرة يَحضُّ على العلم والعدالة الإجتماعية كأساس سياسي ومجتمعي وعلمي، وبمفهوم الحد الأعلى الذي لا يمكن تطبيق حد أدنى منه قبل تطبيقه، ولكن الطُغاةُ من حكام المجتمعات العربية وعبر التاريخ وبالذات ما بعد الخلافة الراشدية، حَرّفوه عن جوهره وأصبح دين يستخدم للتستر بالحكم سياسيا وللعبادات فقط وبطريقة علماء السلاطين، وإستمر ذلك حتى عصرنا هذا.
يقال: "أن الله لا يَبتلي البعض ليُعذبه، بل يبتليه ليُهذبه"...لكن ما إبتلينا به من الطغاة من الحكام وعائلاتهم أعظم وأكبر من العذاب ولا علاقة له من بعيد أو قريب بمفهوم التهذيب، سوى تهذيب يُقصد منه تَشذيباً وفق رؤيتهم، لمنع التفكير ومنع التطور والتقدم...الإبتلاء الذي عشناه ونعيشه يلامس كل مناحي حياتنا، فالعقيدة الإسلامية أصبحت عبء على الإنسان أكثر من كونها منهج إيماني وروحاني سامي، تَحثُّ على التسامي عن الجراح لصالح المفهوم الإلهي في التسامح والتعاون والتشارك والتواصل والإيمان، وأصبحت الشريعه الإسلامية نوع من أنواع الديكتاتورية الجديدة التي تَمسُّ حياة الفرد ورؤيته وخصوصيته وحياته، فرأيه محكوم بتلك القواعد وإلا حياته في خطر، ولبسه محكوم بتفسيرات تخص البعض وإلا جلده أو قطع أصابعه، شريعة المدعو "إبن تيمية" حلت محل الشريعه الإسلامية، وشريعة السلفية الجهادية والقاعدية الإرهابية حلت محل كل الشرائع، فأهل الذمة كفار ويحكم عليهم إما الموت أو الدخول في إسلام القتله في حين نسائهم سبايا، رغم أن سبحانه وتعالى في محكم كتابه قال: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ" (سورة البقرة256)، والأعظم من ذلك قيامهم بتكفير المسلمين من المذاهب التي لا تَدين بمذهبهم، وإعتماد فتاوى ذاك المدعو شيخ الإسلام "إبن تيمية" وهو ليس سوى تكفيري حَكم عليه قضاة المذاهب الأربع "الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية" بالحبس حتى الموت في ذاك الزمن، واليوم يُخرجه تلامذته التكفيريون من قبره ويُخرجون معه فتاويه وشريعته.
هناك من يخاف على تَفجُّر وحدته الداخلية، ووحدته العائلية في الحكم، ووحدته المجتمعية التي يحكمها، فيخرج بحروب إبتلاء ضروس بإسم الإسلام والشريعه، ويُحوّل الحرب الداخلية القادمة إلى حروب خارجية على مجتمعات العرب والإسلام، فأمواله الكثيره والمكدسه تُستخدم لبناء جمعيات وهابية وسلفية تكفيرية قادرة على حشد المُبتَليين في حياتهم وعقولهم وبإسم الدين السمح نحو فكر التكفير والقتل للذهاب إلى جنتهم الموعودة، جنتهم الخاصة والتي تختلف عن جنة الله الموعودة للمسلمين، فجنة الله هي، وكما جاء في كلامه في القرآن الكريم هي للصالحين وليس للقتله، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا" (سورة الكهف 107،108).
هؤلاء يعون أن التغيير سيشملهم شاؤوا أم أبو، وأن إفتعال جرائم الحرب بإسم الدين أو إعلاء كلمة الله "إقرأ إعلاء كلمتهم"، أو بإسم الحرية والديمقراطية التي لا يمتون بصلة لها في تلك الدولة المشرقية أو المغربية او بالمعنى الأشمل دول العالم الثالث المتواجد فيها مسلمين، يعلمون أنهم يحاولون تأجيل قَدرهم القادم بإذن الله، فلا التكفير ولا الأسلمة السياسية ولا شيخهم "محمد عبد الوهاب" تلميذ شيخهم الأكبر "إبن تيمية" سيحميهم من التغيير، فالشعوب قد يتم تضليلها بعض الوقت ولكن ليس كل الوقت، وهم يستطيعون تضليل بعض الناس كلّ الوقت ولكن ليس كلّ الناس، وما محاولاتهم لتصدير إبتلاءاتهم علينا سوى نوع من أنواع الإنتحار، لأن كلّ ما يحدث سينعكس عليهم سلباً، فمن يُربي الحية في حجره سوف تلدغه لاحقا أم آجلاً.
لقد وضعوا أمامنا بلاء مُتعدد الأوجه، فقد إيتلينا أولا بحكام طغاة، وبعائلات حاكمة تتوارث الحكم بعيدا عن الأمة، فالحكم إختصاص لهم ويمنع على الشعب المشاركه سوى بتقديم البيعة لهم، بيعة لا خيار فيها ولا إختيار، وإبتلونا بأحزاب أسلمة سياسية لكل منها تفسير خاص للشريعة والحكم وتستند للطبيعة الخاصة لذاك الحزب او تلك الجماعة، إبتلينا بمذاهب متعددة، وبدل أن تُغنينا فكريا وثقافيا ومجتمعيا، خاصة وأن أساسها جميعا قرآن الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أصبحت عبئا علينا ومجالاً للتجريح والذم والقدح وصولا للقتل والذبح بإسم دين المذهبية، فمثلاً "إبن تيمية" كفر طائفة "العلويين" رغم أن الإمام الأعظم "أبو حنيفه" كان يناصر "العلويين" سياسيا ويتعاطف معهم، وحين جاءَ تلاميذه في العصر الحديث، قاموا بتكفير كل المذاهب والطوائف.
البلاء مستمر، فبدل أن نفكر في تطوير مجتمعاتنا، أصبح نقاشنا تاريخيا، فما أن تقول كلمة حتى يأتيك المُبتلي بحديثٍ عن السلف، وما أن ترد عليه وفقا للتارخ الحقيقي الذي حدث، حتى يردّ عليك بتكفيرك، فالحكم لقريش والأئمة من قريش، هناك القيادة وهناك الريادة وهناك بداية الدعوة المحمدية عليه السلام، والحقيقة أن هناك الأموال، وهناك جمعيات التطرف والفتاوى بإسم الدين، لقد دعا وحارب رسول الله أبو القاسم محمداً صلوات الله عليه وسلم على ظاهر الإسلام وتثبيته ونشره، وحارب تلميذه وفتاهُ ووزيره وإبن عمه الإمام علي كرم الله وجهه على باطن الإسلام "تأويله"، ويبدو أننا لا زلنا نعيش تلك الحروب وبنفس الطريقه رغم مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة...وسبب ذلك إستمرار البلاء، فالقبلية مستمرة، وعادات العرب البدوية أصبحت جزءا من الدين السائد، والحكام رَهنوا دُولهم وثروات العرب والمسلمين في يد الدول الكبرى، وثقافتنا رغم العولمة لا تزال تعيش بيئة رعي الأغنام والبادية والصحراء، وبدل أن نتمسك بجوهر الإسلام تمسكنا بقشوره، فالمرأة وما أدراك ما المرأة لدى العرب البائدة أصبحت هي العنوان والحد الأعلى والهدف في دينهم السائد بدل العدل الإجتماعي والعلم والعبادات والإيمان الروحي.
بلاؤنا تعدى حدود مجتمعاتنا وشخصياتنا وأصبحنا كأفراد ومجموعات ودول، بلاء حقيقي على العالم أجمع وعلى أنفسنا، فالمفاوضات مثلا في ظلّ هذا الواقع بلاء، وحرب "الحرية" في سوريا من أعظم ما إبتلينا به، وحكم الإخوان بلاء سياسي قاتل للفرد والمجتمع، والسلفية والقاعدة وتفريعاتها من "داعش" و "جبهة النصرة" هي البلاء بلا حدود، والثقافة المستندة للبيئة البدوية القرشية أصبحت بلاء ثقافي يَحدّ من تطور العقول والعلوم، التمسك بحرفية الدين لا بتأويله وفق العصر أعظم وأكبر بلاء، فهذا قتل "إبن رشد" وهذا منع “الكواكبي” من أن يتقدم على فكر التكفيريين، وهذا حارب الباحثين وعلماء التاريخ في كتاباتهم، بل إن الإرهاب الفكري كان أساس التخلف الذي نحيا وفي كلّ النواحي، إبتلينا بإرهاب الحرفية في التفسير وبكثرة ما نُقلَ عن الرسول الأكرم عليه السلام.
وأخيراً وليس آخراً، يأتي بلاء ويسمى "ربيع عربي"، بلاء ليس في تحرك الشارع ضد الطغاة، ومطالبته بالحرية والعيش والعدالة الإجتماعية، بل لأنه خُطفَ من قبل من هم أساس البلاء، خطفوه أصحاب الفكر المُبتلي دينيا وسياسيا، فحولوا الربيع إلى شتاء وعواصف وكوارث ستعاني منها مُجتمعاتنا العربية لسنوات طويلة...البلاء حين يكون للتهذيب فهو إبتلاءٌ إلهي مُرحب به، ولكن حين يكون ممن يلبسون العِمه من شيوخ الفتنة، والعقال من السياسيين، وتلاميذهم من أحزاب العمالة السياسية ومهما كان إسمهم الإسلامي، فهو إبتلاء التشذيب والحفاظ على الحكم المسروق شعبيا وتاريخيا والمثبت إستعماريا، هذا إبتلاء التجزئة والتفريق، وليس إبتلاء الوحدة والتهذيب، فاللهم إبتلي هؤلاء اللذين يبتلون علينا ببلاء التعذيب وليس بلاء التهذيب. اللهم آمين.