تجرأت الكاتبة لمى خاطر، ولامست المشاعر الإنسانية، في مقال تحت عنوان: قريباً من الوفاء، تناولت فيه الحياة الزوجية للأسرى المحررين، وتوصي الأسير المحرر بضرورة مراعاة مشاعر المرأة عند زواجه من امرأة ثانية، وتجنّب كسر قلبها.
أتفق مع الكاتبة حين وصفت زوجة الأسير بالأم المضحية، والزوجة الفاضلة، المتفانية في وفائها، والتي تنازلت عن زهرة شبابها، وعن سنوات عمرها، ولكنني لا أتفق مع الكاتبة حين تقول: إن التضحية كانت من أجل رجل، فالمرأة تضحي من أجل وطنها، ومن أجل حياتها هي، وانساقت لعاطفتها التي حالت دونها ودون ترك أولادها في الشارع إن كانت أماً، ولدينا نماذج كثيرة عن المرأة التي مات زوجها، فصارت أرملة، وأصرت على تربية أطفالها، والتضحية بحياتها من أجلهم، لأن البدائل والخيارات أمامها لا ترتقي إلى طموحاتها العاطفية.
لقد تحررت بعض الزوجات من عقد زواجها مع الأسير في الحالات التي لم يكن لديها أطفال، وتحررت بعض الزوجات من عقد الزواج عندما توفر زوج أفضل وأنسب من الزوج الأسير، وتحررت خطيبة الأسير من خطيبها الأسير، وبحثت عن حياتها طالما استطاعت لذلك سبيلاً، وفي تقديري أن معظم اللائي صبرن واحتملن وانتظرن اخترن هذا الطريق المنسجم مع فطرة المرأة، وضمن حساب الخيار الأفضل بالنسبة لحياتهن داخل المجتمع، لذلك لا يصير أن نقيد الرجل بعد تحرره من الأسير بالقيود ذاتها التي تفرضها طبيعة المرأة.
ما لا يعرفه كثير من الناس، أن الأسير الذي يتحرر من السجن بعد سنوات طويلة، يخرج إنساناً آخر يختلف كلياً عن الإنسان الذي دخل السجن، وعندما يلتقي هو وامرأته بعد غياب، فإنهما يلتقيان غريب وغريبة، قد ينسجمان، وقد يتعارضان، لأن سنوات الفراق تباعد بين الأمزجة، فلا تعود النكتة المضحكة هي ذاتها، ولا يعود الاهتمام المشترك هو ذاته، ولا يبقى التفكير المشترك هو ذاته، ولا التصرفات هي ذاتها، فسنوات الغياب الطويلة التي غيرت شكل الإنسان أثرت على السلوك الذي قد ينسجم إلى مع شكله الجديد.
الأسير المحرر الذي يفتش عن زوجة ثانية لا يفتش عن حياته الغائبة، ولا يحاول تعويض سنوات عمره التي ذبلت خلف الأسوار، فالزوجة الثانية بالنسبة للأسير المحرر هي العودة للحياة ثانية، ومحاولة لغرس الجذور في التربة التي اقتلع منها سنوات، سنوات ظلت خلالها المرأة في بيتها وبيئتها، ظلت نخلة باسقة رغم الجفاف.
تجربتنا الفلسطينية خلف الأسوار غنية بعشرات القصص التي لا داعي لسردها، ولكنني سأذكر تجربة الشاعر التركي "ناظم حكمت" الذي عشق زوجته "نوار" وهام فيها حباً، وكتب لها أعذب الشعر، وهو في السجن، ثمانية سنوات ظل الشاعر يتهجى حروف اسم حبيبته، ولا يتنفس الحرية إلا من أجلها، ولا تغمض عينه إلا وقد ضمها بخياله، وراح يهمس لها بالحب حتى يذبل جفنه، ولكن حين تحرر من السجون التركية، والتقي مع زوجته نوار في الاتحاد السوفيتي سابقاً، لم يمكث العاشق ناظم حكمت مع المعشوقة نوار أكثر من عدة أشهر، فقط طلبت الطلاق، وافترقت عنه مع ابنها محمد بقية العمر، لقد أحست نوار أنها تلتقي مع رجل آخر يختلف في طباعه عن زوجها الذي عشقته، ولقد أدرك ناظم حكمت أنه يلتقي مع امرأة أخرى تختلف عن حبيبته نوار التي رفرف لها قلبه سنوات الفراق.
ما سبق تكرر مع السجين العالمي نيلسون مانديلا، الذي طلق زوجته "ويلا مانيدلا" بعد أن انتظرته 25 عاماً قضاها في السجن، افترقا، وراح كل مهما يفتش عن حياة جديدة، فلم تحتمل هي معاشرته، لأن الذي عاد إليها ليس هو الذي تركها قبل سنوات، ولم يحتمل هو عشرتها، لأن التي في ذاكرته ليست هي التي بين يديه.
الكاتبة الفلسطينية لمى خاطر مبدعة في موضوعاتها، ولُمى بالضم أو لَمى بالفتح لفظة جمع، مفردها لمياء، ولمياء هي ابنتي التي جاءت إلى الدنيا من زوجتي الثانية، بعد تحرري من الأسر. لمياء زهرة وفاء يا لمى.