امام ما يتعرض له المثقف الفلسطيني والعربي اردت ان ابدأ ، إذ ليس من السهل على أي باحث أو مثقف أو مفكر في هذا العصر أن يضع مفهوماً محدداً للثقافة، فهو عصر تتهاوى فيه كثير من النظم والأفكار والقواعد المعرفية ، بسبب التطور المتسارع للعلوم وتكنولوجيا المعلوماتيه وعلوم الفضاء ، إلى جانب تطور العلوم الحديثة في اللغة، والاجتماع، والتاريخ والجغرافيا البشرية والاقتصاد، ما يستدعي من المثقف العربي، التأمل والتفكير ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة.
وفي ظل هذه الظروف لم ننسى مدينة بيروت هذه المدينة الزاهية الجميلة ببحرها وشاطئها ومناخها واماكنها ومقاهيها واحيائها وازقتها ومبانيها الأثرية واسواقها الشعبية ، التي احتضنت الاشعاع الفكري والثقافي والسياسي والفني ، وقد شكلت ملتقى ووطنا للفلسطينيين والعرب المثقفين بلا استثناء ، اصحاب الادمغة والعقول ، الذين ضاقت بهم الحياة في بلدانهم أو الذين هجروا من وطنهم بعد النكبة، فلجأوا اليها واتخذوها منها موقعا لهم ولعطاءاتهم ، ومن بين هؤلاء المثقفين وعشاق الحرف والكلمة نذكر على سبيل المثال لا الحصر ، محمود درويش ، معين بسيسو، عز الدين المناصرة، حنا مقبل، =انيس الصائغ ، يحيى يخلف، غسان زقطان، على فودة، احمد ابو مطر، امجد ناصر، سعدي يوسف ، غالب هلسا، حسين مروة، محمد دكروب ، مهدي عامل ، والقائمة طويلة جداً.
نحن اليوم نتطلع الى اهمية ودور المثقف الفلسطيني والعربي ، ودوره في الدفاع عن القضية المركزية للامة العربية وللاحرار والشرفاء في العالم، لأن حرية فلسطين هي الرئة التي يتنفس منها المثقف وكل صاحب رأي حر ، وحيث أن حرية المثقف الفلسطيني والعربي محجور عليها من مصادر متعددة تضاف للحجر ،حيث تغيب المشاريع الفكرية والثقافية الكبيرة ، نتيجة ما يجري اليوم من انتفاضات عفوية ولمتغيرات تحمل في طياتها الكثير من بذور القلق وتشاؤم العقل بسبب هذا الضعف المريع للمثقف الديمقراطي الثوري عموما واليساري على وجه الخصوص ، وبسبب قوة تأثير القوى المتطرفة بمختلف اطيافها الاسلام السياسي والليبرالية ، الذي يسعى إلى اعادة تشكيل ثقافة التخلف وتبرير الخضوع والتبعية و علاقات الاستغلال تحت مظلة هشة من الديمقراطية الشكلية .
في جميع الحالات فالمثقف والمعارض السياسي وكل صاحب رأي مستقل، محاصر ولا يجرؤ على الكلام إلا ضمن حدود ، ليست حدود الالتزام الوطني أو الالتزام بمقتضيات العقل والمنطق ،بل الحدود التي ترسمها السلطة، وإن تكلم فعليه أن يتحمل مسؤولية كلامه وقد دفع كثيرون من صحفيين وأكاديميين ومواطنون ثمنا لأنهم تجرؤا على الكلام بما لا يرضي الحاكم بأمره، وهذا ما نراه اليوم، يريدون من المثقف خاضعا لما يريدونه .
ولهذا يجب على المثقف العمل من اجل ترسيخ المفهوم الواضح للثقافة في ممارسة النقد الاجتماعي أو السياسي أو في صياغته للنظرة الشاملة للتغيير، ومواجهة الحالة الانهزامية التي تشوه صورة المثقف .
ان حرية فلسطين تتطلب استعداد للتضحية، وأن المثقف الفلسطيني والعربي يبرهن محصلة لقيمه الثقافية الكفاحية وفق ما يتطابق مع تطلعات الطبقات الشعبية وأهدافها المستقبلية ، الأمر الذي يفرض ضرورة تاريخية راهنة ومستقبلية ، تتطلب من قوى وأحزاب اليسار استعادة دورها وقيادتها لحركة التحرر الوطني والقومي الديمقراطي من أجل تجاوز وتغيير هذا الواقع المهزوم صوب مستقبل واضح للوصول للهدف المطلوب ، في ظل مرحلة تشهد حالة من انسداد الافق السياسي، وفشل مريع للخيار والنهج التفاوضي، وقيام الاحتلال باستباحة الأرض الفلسطينية عبر تكثيف غير مسبوق للاستيطان في القدس والضفة الغربية، وقيام المستوطنين بأعمال العربدة على طول وعرض جغرافية فلسطين ، وخاصة التصدي لنهج بعض النخب الثقافية والفكرية والاعلامية والرياضية الفلسطينية، التي تتهافت من أجل شرعنة التطبيع، وتقوم بعقد لقاءات وأنشطة تطبيعية بكل الأشكال والمسميات ، وبما يؤكد بأن هناك ما وراء الكلمة بمعنى آخر المعنى السلبي للكلمة لانهم غير قادرون على أن يعيدوا صياغة مشاريعهم في شكل أفضل لكي يساهموا في اعادة وترشيد حركة التاريخ من جديد ، لان هذه النخب المنهارة والمنتفعة والمتاجرة بنضالات وتضحيات ودماء الشعب الفلسطيني، تستهدف وعي وذاكرة وثقافة هذا الشعب المناضل وبالذات الشباب منهم، فهي تريد أن تحدث إرباكا وبلبلة في الشارع الفلسطيني، وتريد أن تحدث اختراقات جدية في جدار الوعي المقاوم للاحتلال وادواته ، بهدف القول بأن التطبيع اجتهاد ووجهة نظر، وليس خرقاً وخروجاً على الثوابت وتجاوز للخطوط الحمراء الفلسطينية .
ان حياتنا كلها سياسة بدءاً من اللقمة واللباس والسكن، ومروراً بالكلمة المسموعة والمرئية والمكتوبة وحتى الدعاية، وانتهاء بالقلم وإبداعه. فالسياسية هي الحياة في كل أبعادها ،والتاريخ يذكر عمالقة الفكر والثقافة والإبداع، ولا يذكر القادة السياسيين إلا إن كانوا عباقرة تنطبق عليهم سمات المثقف الحقيقي.
إن ارتباط المثقف الفلسطيني بشعبه الفلسطيني والذي هو جزء من الأمة العربية، والعمل الصادق والمخلص ضمن هذا المنظور، سيخرجه من أزمته حتماً، لأنه كمثقف يجب أن يكون اللسان المعبر عن أمته في آلامها وأحزانها وأفراحها، وفي آمالها وتطلعاتها وأهدافها. وأن يكون هو المثل الأعلى فكراً وأخلاقاً وممارسة.
ختاما لا بد من القول : يجب على كافة المثقفين حتى لا ترجع عجلة التاريخ للوراء وانما للأمام بقيمتها وبريقها العمل على دعم القضية الفلسطينية من خلال توحيد الصفوف والتمسك بخيار النضال والكفاح حتى تحرير الارض والانسان.