حيث أن المصالح الوطنية والأخطار التي تهددها هي معيار سياسات الدول وخاصة الكبرى منها، وهي البوصلة التي تتحكم باتجاهات حركتها مكاناً وزماناً، ومن خلال هذا المنظور يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية ستخرج من الباب الخلفي لمنطقة الشرق الأوسط التي أثقلتها بالديون، وهدمت إقتصادها، ودمرت سمعتها الأخلاقية ، وأساءت لديمقراطيتها المزعومة، نظراً لسياساتها الخاطئة المتهورة في المنطقة، ومكاييلها المزدوجة غير العادلة، وعجزها عن إدارة الأزمات فيها، وفشلها في الإحتواء المزدوج للقوى الإقليمية في المنطقة، فأفقدتها الأصدقاء والحلفاء. وأضرت بمصالحها القومية. حيث تحول الشرق الأوسط الى مركز تكلفة باهظة على إقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية، وبمثابة ثقلٍ يشد إقتصادها للهاوية، ويلطخ سمعتها الأخلاقية بالوحل، مما إضطرها لرفع سقف الدين خوفاً من الإنهيار الإقتصادي والإفلاس المالي، نتيجة للإفلاس السياسي والأخلاقي ومساويء النظام الإقتصادي الرأسمالي الحر.وتلك مؤشرات واضحة على فشل النظام الإقتصادي الرأسمالي الحرالذي أطلق يد رأس المال للتحكم بمصائر الشعوب الإقتصادية والسياسية، وأصبحت القلة تغلب الكثرة بفسادها، وشهدنا الإنهيارات الإقتصادية في معظم دول أوروبا كاليونان والبرتغال واسبانيا وايطاليا نظراً للهيمنة الإقتصادية الأمريكية على تلك الدول، تماماً كما فشل النظام الإشتراكي الشيوعي الصارم من قبل، والذي وأد الإبداعات الفكرية والشخصية بهيمنة النظام الحاكم على موارد الدولة ونفقاتها وتحكمه بها، دن اعتبار للمواطن وحقوقه في التنافس الشريف وفي صنع القرار وتحديد المصير، وأدى الى الإنهيار السياسي للإتحاد السوفياتي وتفككه وتحلله الى مكوناته إفرادياً.
وهذا الهروب الأمريكي ظاهرٌ اليوم بوضوح في ملفات المنطقة، وعلى رأسها الملف الفلسطيني الإسرائيلي القديم المتقادم، والذي هو الجذر الرئيسي المتقيح الذي يغذي بقية الملفات الفرعية الشائكة وينقل اليها الخراب، حيث عجزت الولايات المتحدة الأمريكية يوم أن كانت القطب الأوحد في العالم عن تفهم مصالحها الوطنية في المنطقة، ونظرت الى مصالحها الوطنية من خلال منظور مصالحها الضيق مع اسرائيل، لأسباب انتخابية تنافسية بين الحزبين الرئيسيين المتعاقبين في الحكم. وتحت سياط تسلط اللوبي الإسرائيلي بأمواله وسلطاته الإعلامية والتجسسية على صناع القرار في أمريكا، وبالتالي جاء فشلها الذريع في الملفات الفرعية كالملف السوري، وتبعه الملف المصري، ثم الملف الإيراني.وما بعد الفشل يحين موعد الهروب والخروج من حلبة الصراع للحد من الخسارة، فالحد من الخسارة يعتبر ربحاً. هذا عداك عن ثقافة التقليد الأمريكي المتوارث منذ تأسيس الدولة الأمريكية، والقائم على منطق القوة، والتصفية العرقية بمفاهيم الإقصاء للآخر، والهيمنة المطلقة عليه دون اقتسام المصالح ومبادلتها معه، بمقاييس تفتقد للأخلاق والعدالة.
وفي ظل هذا التخبط الأمريكي في السياسة والإقتصاد، وغياب الصواب والمنطق والعدل عن الإدارة الأمريكية، هنالك دب روسي متربص استفاد من تجربته السابقة، ومن كبواته الإقتصادية والسياسية، وينتظر حصته من فرائس العالم الضعيفة ليستعيد دوره القديم، وهنالك أيضاً تنين صيني عظيم، يتمتع بحضارة قديمة فيها من الأخلاق والمباديء ونسبة من العدالة والتوازن، ولم يمارس الإستعمار الإستيطاني المُذل كما مارسه المستعمرون، ويتمدد في العالم كالأخطبوط، معتمداً في تمدده ونموه على الحكمة والمنطق والأخلاق ونوع من العدالة النسبية في تقاسم المصالح، وأصبح بمثابة المارد الإقتصادي الذي يهدد الإقتصاد الأمريكي المترنح والمتهاوي، إقتصاد صيني يوازن بين الرأسمالية والإشتراكية، ولم يلغِ الرقابة والتدخل من قبل أجهزة الدولة المختصة في موارد البلاد ونفقاتها، مع إطلاق الإبداع الفردي والجماعي في صنع الإقتصاد وتنميته تحت رقابة السلطة الحاكمة والواعية لمصالح شعبها، ويمسك العصا من المنتصف، وبذلك تغير اتجاه البوصلة الأمريكية باتجاه الأخطار القادمة التي تحدق بها وتحاصرها وتستولي على أسواقها، فالخطر الأكبر على الإمبراطورية الأمريكية يأتي من الصين وروسيا والدول التي تلف في هذا المحور. لذلك كان لا بد للولايات المتحدة الأمريكية من التحرك زماناً ومكاناً بكل قواها لمواجهة الخطر الصيني قبل الروسي وجهاً لوجه، وتركيز عنايتها ومقدراتها لمواجهة هذا الخطر الداهم، وبناءً عليه يجب التخلي عن تشعبات الأدوار التي مزقتها، والإنسحاب من الشرق الأوسط الذي صار مكلفاً كلفة باهظة وأصبح يمثل بند خسارة في ميزانيتها، وتتحرك بإتجاه الخطر الداهم الجديد، والتركيز عليه لحفظ ما تبقى من المكتسبات وعلى كيانية الدولة المهددة بالتفكك والتحلل نظراً للضغوط الإقتصادية الهائلة والتفاوت في الموارد بين ولاية وأخرى.
والسؤال الذي يهمنا كفلسطينيين، هل يعني الإنسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط المساس بالعلاقة الأمريكية الإسرائيلية؟
هذا يعتمد على الدور الإسرائيلي في التوجه الأمريكي الجديد الذي يبدو صعباً ومعقداً لبعد المكان، بالإضافة الى صلابة الجدار الصيني القديم والضارب في التاريخ، وتعملقه مقارنة مع الكيان الإسرائيلي الحديث والمصطنع والشاذ في تكوينه وتخلقه، وهل تبادر اسرائيل بتغيير الولاءات، باتجاه مصالحها ومقايضة العلاقة الوطيدة مع أمريكا لحساب القطب الجديد الناشيء والذي سيخلف أمريكا بمنطقة الشرق الأوسط من خلال الدب الروسي، لتقديم خدماتها له كما كانت تقدم خدماتها لأمريكا. وهل تتحرك السياسة العربية لتسفيد من هذا الوضع الجديد، وتسبق التحرك الإسرائيلي وتلتف عليه. نأمل ذلك على الرغم مما يعترينا من إحباط حيال السياسات العربية.