الهجرة محطة رئيسية فاصلة انتقل فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) من مشروع الدعوة إلى الدعوة والدولة ومن الإستضعاف إلى المنعة على طريق التمكين.
في هذه الأيام نستحضر ذكرى الهجرة وكذلك ذكرى " حجارة السجيل " التي أعادت رسم معادلة جديدة في العلاقة مع المحتل الغاصب عنوانها " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً " [الفتح: 24].
والهجرة ملأها اليقين على الله تبارك وتعالى وتمثل ذلك في استحضار المعية الإلهية " لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا " [التوبة: 40]، و " شاهت الوجوه "، و " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما "، وهذه المعية المستقاة من اليقين على الله تبارك وتعالى كانت حاضرة لدى أهل غزة ومئات الأطنان من الصواريخ تدك البيوت الآمنة فوق رؤوس أصحابها ولا يقولون إلا كلمات النصر والعزيمة والثبات والصمود والتسليم والرضا والطمأنينة والسكينة.
والهجرة يتملك فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) الإرادة الكاملة والعزيمة القوية التي لا يتسلل إليها ضعف أو خوَّر " حتى يظهره الله أو أهلك دونه ". وهذا كان شاخصاً في " حجارة السجيل " حيث الإرادة الصلبة التي أرهبت العدو فساق الله إليه الرعب " فوالله لو سحقنا فرداً فرداً لن يخلصوا إلى غزة العزة ".
ولحظة وصول النبي (صلى الله عليه وسلم) مهاجراً إلى المدينة المنورة وقبل أن يستقر له مقام أرسى دعائم المسجد " لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " [التوبة: 108]. والمساجد طريق لصناعة الإنسان وبناء الجيل ومن علامات نصر الإسلام القادم في هذه المرحلة انتشار بيوت الله فحيث كان مسجداً كانت بيئة صالحة واليوم تزداد وتزدان المساجد في غزة بشكل مضطرد ولله الحمد، لذلك علينا بإعمار المساجد بناءً وإعمارها ركعاً وسجداً لأن في ذلك صيانة للجيل على طريق التحرير.
ثم آخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بين المهاجرين والأنصار، وهذه الأخوة " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " [الحجرات: 10]، ويتحقق فيها مراد الله تبارك وتعالى " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " [آل عمران: 103].
وفي حجارة السجيل تجلت الوحدة بأبهى صورها وغدا واضحاً أنه لا يوجد فلسطيني واحد تخلى عن حقوقه وأن المقاومة خير من يوحد شعبنا على كلمة سواء. ومن هنا كانت " حجارة السجيل " دعوة إلى كلمةٍ سواءً بصياغة برنامج وطني يحمي الحقوق ويحافظ على الثوابت ويمضي للتحرير هو أقصر طريق للوحدة الحقيقية.
وفور وصوله إلى المدينة بدأ النبي (صلى الله عليه وسلم) رحلة الإعداد للعودة بأمر إلهي " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ " [الأنفال: 60]، ويشمل ذلك جميع أنواع القوة " ألا إن القوة الرمي"، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم) قد تلقى أمراً من الله تبارك وتعالى أثناء الهجرة بالقتال " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ " [الحج: 39].
وحجارة السجيل كانت إيذاناً بالإعداد الذي يقوم به المجاهدون طوال أعوام خلت، وغاية ذلك التحرير للأرض المباركة المقدسة، وكان قصف العاصمة المزعومة والقدس المحتلة بالصواريخ لأول مرة علامة فارقة في مستوى الإعداد والجرأة، وكل ذلك لن يقود إلا للنصر المبين. الهجرة بذاتها رغم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مطارد وملاحق إلا أن الله تبارك وتعالى وصفها نصراً " إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ " [التوبة: 40]، والنصر يأتي متدرج. ومن هنا فإن " حجارة السجيل " في ذكراها كانت نصراً ضمن خطوات النصر التراكمي لشعب فلسطين بدءاً من انتفاضة الحجارة إلى الإنسحاب من لبنان إلى انتفاضة الأقصى إلى الإنسحاب من غزة إلى عدوان الفرقان إلى وفاء الأحرار إلى حجارة السجيل، والمهم الآن توظيف النصر واستثماره والإستعداد لمراحل التحرير القادمة وأهم ما يصاحبها أخلاق المنتصر وعلى رأسها بسط الجناح والتواضع والتذلل للمؤمنين والعفو كما فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة " إذهبوا فأنتم الطلقاء ". ورأس الأمر في ذلك امتلاك الرؤية لمراحل التحرير القادمة، فالنبي (صلى الله عليه وسلم)وهو مهاجر يَعِد سُراقة " عُد ولك سواري كسرى "، ونحن نمضي من محطة حجارة السجيل في ذكراها وفي ذكرى عدوان الفرقان فإننا نمتلك الرؤية " لتدخلن المسجد الأقصى بإذن الله فاتحين محررين منتصرين ".
6/11/2013