مصادفة هي محادثتي مع صديقة صحفية سودانية مقيمة بالسعودية، وتعمل هناك، جاء حديثي معها وأنا بالأسبوع الأول بالسودان استطلع وأشاهد الشعب السوداني الشقيق بكل تجلياته الاجتماعية. ونظرًا لقصر المدة الزمنية وعدم القدرة على استنباط أي شيء اجتماعي بعد لهذا المجتمع الذي لم أفاجئ حتى اللحظة بشيء سوى انعكاس الصورة التي كانت متبلورة بذهني ممَا سمعت ورأيت عن السودان، وهو حجم التطور في البنى التحتية المجتمعية رغم حداثته وبساطته إلَّا أنه يتطلب التطرق إليه، فهناك نقلة بالسودان. هذا هو الإحساس أو الانطباع الذي أحس به وأستشعره من الأيام القليلة بالسودان، إضافة لشيء هام لم أحسه بالشقيقة مصر التي أمضيت بها نفس الفترة وهو الطمأنينة والثقة بالنفس وعدم تسلل إحساس الارتباك والغربة بعد لأعماقي في السودان. لا أعلم السبب الحقيقي بعد لهذه الطمأنينة أو الحالة، ربما لظروف مصر السياسية والأمنية، وربما لأسباب أخرى.
الآن أكتب أول مقالاتي في السودان الشقيق من مقهى " عفراء" وهو سوق تجاري راقي وكبير بالخرطوم، بجواري يجلس عوائل من معظم الجنسيات العربية وخاصة السورية، هذه العوائل التي ارتحلت عنوة وإجباريًا عن سوريا، كما نحن مرتحلون إجباريًا حسب رغبة وقرار وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية.
وعودة على بدء، لصلب وجوهر هذا المقال الذي بدأ بمحادثة سريعة مع الصديقة السودانية التي باغتتني بالقول:" لقد عملت في صفوف الحجاج الفلسطينيين، وصدمني حجم الانقسام والصراع والعنصرية بينكم، وفي صفوف الحجاج، حيث رفض حجاج الضفة الإقامة مع حجاج غزة، كما رفض مرشدين الضفة مساعدة مرشدين غزة، والعكس صحيح" وتضيف قائلة:" كنت أظن أن قبليتنا السودانية هي أسوأ أشكال التمييز والعنصرية، ومرض خبيث بجسدنا، لكن اتضح أن صراعكم وانقسامكم أخطر من قبليتنا السودانية"، هذا الحديث العابر ليس بجديد، وليس محور صدفة أو أحد مكتشفات هذه الصديقة، بل هو تعبير عن حالة عاشتها ورأتها، وكذلك شيء أصبح متداول بين أبناء شعبنا الفلسطيني وأصبح هناك نغمة سائدة هي" ضفاوي، غزاوي" هذه النغمة سمعتها بين صفوف الطلبة في اليمن عام 2011، والآن اسمعها بين جاليتنا وطلابنا في السودان. أقر أنني أسمعها وسمعتها ولكن لم أوليها اهتمام كافِ، لأنني اعتقدت سابقًا أن هناك مبالغات في الحديث عنها وتناولها، وأنها ظاهرة غير محسوسة أو مرئية، رغم أنها أصبحت متداولة بشكل كبير ومتفاعل، ويرددها المعظم من أبناء شعبنا، وخاصة بالخارج، وحسب المثل العامي" العيار الذي لا يصيب يدوش"، أي لكل حدثٍ حديث.
ولكن ما أسباب هذه الظاهرة إن وجدت فعلًا في الجسد المجتمعي الفلسطيني الذي تميز بانسجام كامل بفيسفائه المجتمعية على مدار مقاومته للمحتل، ومعركة التحرير التي يخوضها- ولا زال- ولم يعانِ من هذه الظاهرة قبل ذلك أو أي مظاهر تفرقة مهما صغرت أو كبرت؟ فمجتمعنا الفلسطيني واجه عدوة متحدًا منسجمًا مؤمنًا أن الكل الفلسطيني في خندق واحد، ولم تنجح الحركة الصهيونية وعملائها في خلق أي شرخ بهذه الفسيفساء المجتمعية رغم كل مؤامراته ومحاولاته. فهل يعتبر الانقسام أحد مداخل هذا التمييز- إن وجد- أو كما أطلقت عليه الصديقة السودانية (العنصرية)؟ وأشعل النيران من تحت الرماد؟ أم أن التربية الحزبية والمصلحية لبعض الفئات ساهم في إشعال شذوة هذه الظاهرة؟
بكل الأحوال إن الظاهرة الصوتية تحتاج لدراسة عميقة ومعمقة لكي يتم الإقرار بوجودها، ومن ثم علاجها واستئصالها قبل أن تستفحل وتتحول لأشبه بالقبلية أو الطائفية التي تحرق صلب وجوهر صراعنا الأساسي مع الكيان الصهيوني، والتحول من حركة تحرر وطني لحركة تمييز جغرافي، والانتقال من الجزأين (غزة- ضفة) إلى مدن ومحافظات وتعيش كل محافظة أشبة بكيان مستقل بشريًا.
فهذا ناقوس خطر وإنذار شديد اللهجة ينخر الجسد الفلسطيني المجتمعي الشمولي الكلي، ويهدد قضيتنا الوطنية، يتوجب التصدي له من أعلى رأس الهرم وصولًا إلى الأسرة الفلسطينية.