كاد ملف اغتيال الشهيد أبي عمار أن يطوى وللأبد لولا عناية الله ومشيئته أولاً، وإصرار وحرص السيدة أرملة الشهيد على متابعة كشف اللثام عن جريمة القرن المتمثلة باغتيال قائد الثورة الفلسطينية ورمزها أبي عمار ثانياً، حيث وافقت في فبراير/ شباط 2011 على تسليم ملف عرفات الطبي ومتعلقاته الشخصية إلى فريق الصحافة الاستقصائية في قناة الجزيرة الفضائية، لتتجه الأمور لأول مرة وجهتها الصحيحة بعد طول انتظار ممل وأعذار وتبريرات، ليكشف المركز الجامعي للطب الشرعي في مدينة لوزان السويسرية اللثام بتقريرهم ذي (108) صفحات بأن مقادير غير طبيعية من البولونيوم وجدت في حوض ختيار الثورة ورمزها وأضلاعه وفي التربة الموجودة تحت جثمانه، ولكن ... أكنا حقا بحاجة لثماني سنوات كي نعرف بأن رمز الثورة الفلسطينية الذي ترك ليموت ببطء في عقر داره ووسط رفاق دربه قد قضى شهيداً!؟، في وقت كان قد تنبأ الشهيد المغدور بمصيره وقبل أن يصاب بالمرض الغامض يوم كان محاصرا في المقاطعة برام الله من قبل قوات الاحتلال الصهيوني وقالها بملء فمه بإصرار الثوار المؤمنين "لن أخرج إلا شهيداً"!؟، ثم... أما كان الأجدر بالسلطة الوطنية الفلسطينية التي أوجدها الشهيد عرفات أن تبحث سريعا عن إجابات شافية وافية تتعلق بظروف مقتله، وكيف ومن الذي أوصل السم لجوفه، خصوصاً وأن ثمة مخاوف من أن التأخير بكشف تلك الحقيقة يمكن أن يؤدي إلى تبخر هذه المادة السمية واختفاء سلاح الجريمة النكراء وبالتالي ضياع الحقيقة وإلى الأبد!!؟.
ربّ قارئ كريم سينبري لي معترضا على مقدمتي تلك بالقول بأن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تقف مكتوفة اليدين وأنها كانت قد شكلت لجنة فلسطينية خاصة برئاسة السيد توفيق الطيراوي لكشف ملابسات اغتيال الشهيد عرفات، وأن تلك اللجنة قد عملت بسرية تامة بعيدا عن ضغط الإعلام وتحسباً من أي تسريب لنتائج أعمال اللجنة، وأنها قد جمعت البيانات وأخذت الشهادات منذ اللحظة الأولى لوفاة عرفات عام 2004، فأجيب القارئ الكريم ذاك لعمري صحيح ولا خلاف عليه، ولكن... إلامَ كانت ستبقى تلك اللجنة الفلسطينية تبحث عن سبب الوفاة وكشف أداة الجريمة ومن اقترفها!؟، ثم أن تلك اللجنة الفلسطينية ورغم تشكيلها المبكر فإنها لم تقدم أي نتائج تذكر للشعب الفلسطيني، فملف وفاة عرفات ظل يراوح في مكانه، في وقت كانت قناة الجزيرة الفضائية قد بثت في يوليو/ تموز 2012 تحقيقا استقصائيا تضمن نتائج فحص متعلقات عرفات التي عثر العلماء السويسريون بعد فحصها - وفحص بقايا بوله وبقع دمه وبعض الشعر العالق في قبعته- على مقادير عالية من مادة البولونيوم 210، ثم تلته ببثها قبل أيام معدودة لمفاجأتها الاستقصائية الأخيرة بكشف "ماذا قتل الشهيد الرمز أبا عمار!؟"!!.
لقد تفاوتت - بعد استخراج عينات من رفات الرئيس الفلسطيني الراحل أبي عمار رحمه الله- ردود الفعل الفلسطينية، الرسمية والشعبية، فمنها من رأى بضرورة المضي قدما في التحقيق لمعرفة أسباب الوفاة والجناة حتى النهاية، ومنها من شكك أساساً في جدوى هذه الخطوة، فيما تذرع آخرون باحتمال انهيار ما يسمى بـ"عملية السلام!!" كما جاء ذلك تحديدا على لسان ابن شقيقة الفقيد الكبير السيد ناصر القدوة، وأتساءل كرة أخرى وباستغراب شديد: أي عذر ذاك الذي ساقه السيد القدوة تبريرا لعدم أخذ عينات من جثة الشهيد لمعرفة أسباب الوفاة الغامضة!؟، ثم ... وأي "سلام" ذاك الذي يخشى تعثره في وقت تم اجتياح مدينة رام الله في عام 2002 من قبل قوات الاحتلال الصهيوني، وقيامها بتدمير بعض أجزاء من المقاطعة بمباركة الرئيس الأمريكي "بوش الصغير" الذي طالب بكل قبح آنذاك شعب فلسطين باختيار قادة جدد للسلطة الفلسطينية بدلاً ممن وصفهم بخطابه المتلفز بـ"الإرهابيين!!"، وما أعقب ذاك الاجتياح الصهيوني والتدمير من فرضهم للحصار الجائر لسنوات على مقر إقامة قائد الثورة الفلسطينية ورمزها ومؤسس سلطتها الفلسطينية، وما تبعه من مسلسل مرض ومعاناة الختيار وتركه يموت ببطء شديد في عقر داره وبين رفاق دربه ومقربيه وتحت أنظار ومسمع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية العتيدة!!!.
إن عذر السيد القدوة المتعلق بمخافة انهيار العملية السلمية كان أقبح من ذنب التقصير في كشف ملابسات جريمة اغتيال عرفات، فهو حجة واهية لا وزن لها في ظل الكذبة الكبرى في حلم "تحقيق دولة فلسطينية" على جزء يسير من مدن وقرى الضفة الغربية وعاصمتها القدس، فها هي اليوم - وبعد رحيل الختيار القسري - حكومة الاحتلال الصهيوني تسير على ذات نهجها الذي اعتادت عليه غير آبهة باحتجاجات وتظلمات ودعوات سلام وتهدئة أمريكية كاذبة، وهاهي بمنتهى الصلف تقيم المستوطنات تلو المستوطنات لقطعان مستوطنيها تحت أنظار راعية السلام المزعوم، فيما يستبيح هؤلاء بين الحين والحين حرماتنا ومقدساتنا في المسجد الأقصى!!، وإلا، فلو كانت السلطة الفلسطينية جادة حقا بكشف الغموض عن رحيل الختيار لكانت قد سارت في الطريق الذي سلكته أرملة الشهيد، دون أن تعير بالا ولا وزنا لتداعيات احتمالات انهيار ما يسمى بعملية السلام تلك وبالتالي خسارتها لـ"منجزاتها العظيمة!!"، ليكون بذلك ثمن كشف اللثام عن مقتل من أوجد السلطة الفلسطينية ومن كان قد دعا للسير في طريق التسوية وصولا لإقامة الدولتين على أرض فلسطين التاريخية أغلى بكثير من تسوية سلمية فاشلة وعقيمة!!.
إننا لا نجافي الحقيقة لو أننا قلنا بأن هناك جهات دولية وإقليمية كانت تدفع باتجاه المماطلة والتسويف بكشف تلك الحقائق المرة، ومنها الجانب الفرنسي تحديداً، فلقد أوضح مدير مكتب الجزيرة في رام الله وليد العمري أن لجنة التحقيق الفلسطينية قد استاءت قيام الجهات الفرنسية الرسمية بتجاهل الرد على ثلاثة أسئلة وجهتها لها اللجنة الفلسطينية والتي تتعلق بأسباب قيام مستشفى بيرسي الفرنسي الذي عولج فيه عرفات بإخفاء عينات تتعلق بالشهيد الفقيد، ولماذا تجاهلت الجهات الفرنسية إجراء تشريح لمعرفة سبب الحالة المرضية التي وصل لها الزعيم الفلسطيني الراحل، ولماذا لم تبادر فرنسا بفتح تحقيق مشابه للذي قامت به شبكة الجزيرة الإعلامية، والذي عزز فرضية أن يكون عرفات قد توفي مسموما!!.
لقد أسقط - وبحمدالله تعالى - تحقيق الجزيرة الاستقصائي الخاص بملابسات وفاة الختيار وظهور دليل مادي قوي بوجود مادة البلونيوم كل الذرائع والحجج الواهية التي حاولت جاهدة تعطيل كشف اللثام عن حقيقة أسباب وفاة الزعيم الكبير، ومنها ما جاء تحديداً على لسان السيد فايز أبو عيطة الناطق باسم حركة التحرير الفلسطيني (فتح) الذي حاول تبرير تأخر أعمال اللجنة الفلسطينية بذريعة ضعف الإمكانيات الفلسطينية، و باتت الحقيقة التي كشفتها قناة الجزيرة الفضائية ملكا للشعب الفلسطيني المتطلع لمعرفة المتسببين باغتيال رمزه وشهيده وقائده ومؤسس حركته الوطنية، وإذا ما تم اليوم معرفة نوع السم الذي أودى بحياة الختيار أبي عمار، وإذا كنا نعلم علم اليقين أن من سعى لتسميم عرفات وإزاحته عن المشهد االفلسطيني هي دولة البغي والعدوان الصهيوني بمباركة أمريكية وصمت عربي مخز ومهين، فأنه صار لزاما على شعب فلسطين أولاً وفصائله وحركاته السياسية ثانيا الضغط للسير قدما لإماطة اللثام سواء عمن تسلم السم ووضعه في مأكل أو مشرب الشهيد المغدور عرفات من حاشيته ومرافقيه داخل المقاطعة، أو من ارتضى السكوت والخنوع طويلاً من أجل دفن الحقيقة تلك.
لاريب أن الكرة الآن قد غدت في ملعب السلطة الفلسطينية بعد كشف نوعية السم وسقوط أعذار وحجج إمكانيا السلطة المتواضعة كي تسارع دونما إبطاء أو تسويف باستكمال التحقيقات والسير حثيثا للوصول إلى باقي الإجابات الخاصة لمعرفة هوية الفلسطيني المقرب من الختيار الشهيد والذي قام بتلك الفعلة الشنعاء والاقتصاص منه وأخذ ثأر شعب فلسطين برحيل رمز ثورته، وبالتالي رفع الأمر لمجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة والمحكمة الدولية لإصدار قرار تجريمي بذلك.
وللحديث بقية...
سماك العبوشي
[email protected]
13 تشرين الثاني / نوفمبر 2013