على راسه ريشة، هذا ما ننعت به شخصاً ما على اعتبار أنه يتميز عن غيره من البشر، وأحيانا تحمل الصيغة الاستنكارية بما فيها من سخرية، اذا كانت مقدرات ذاك الشخص لا تمنحه تلك المكانة، لعل هذا المصطلح جاء عن طريق اعتقادنا الخاطيء بأن أصحاب السلطة والنفوذ كانوا يضعون ريشة على رؤوسهم، فلم ينقل لنا التاريخ أن سلطاناً أو حاكماً كان يضع في عمامته ريشة طاووس كما نعتقد، بل أن هذه الصورة هي من محض خيال العاملين في مجال السينما، حيث الأفلام والمسلسلات التي تتناول واقعنا القديم هي من استنبطت هذه الخرافة فعلقت في ذاكرتنا، وتحولت معها الريشة إلى قيمة تمنح صاحبها مرتبة "علية القوم" وتدخله قلعة السلطان والحكم، فيتحول بها إلى شخص لا يصل القانون إليه.
لكن الحقيقة أن عبارة "على راسه ريشة" تمتد في التاريخ إلى ما هو أقدم من ذلك بكثير، إلى الحضارة المصرية القديمة حيث تعددت لديهم الآلهه، وخرافة الفراعنة المتعلقة بالريشة ترتبط بإله العدالة كما كانوا يعتقدون، وهي الالهة "باعت" التي صورتها الحضارة المصرية القديمة بصورة السيدة التي تضع على راسها ريشة، وريشة "باعت" كما حملته الخرافة القديمة كانت هي المقياس لأعمال الخلق، حيث توضع أعمال الشخص في كفة وريشة "باعت" في الكفة الأخرى من الميزان ، فإذا ما ثقلت كفة الأعمال عن ريشتها فهذا يمنح صاحبها صفة الخلود ويقربه من مكانة الألهة، وإذا كان غير ذلك بات نسياً منسياً، والفرعون ذاته كان يحرص على أن يقال عنه عاش في باعت، أي أن فترة حكمه تميزت بالعدالة، المهم أن مفهوم العدالة في الخرافة سقط من المضمون وبقيت لدينا الريشة نضعها على راس من هم أطول قامة من القانون.
الحقيقة المجردة أنه بات لكل منا ريشته التي يزن بها أعمال الاخرين، وطبقاً لعملية القياس التي يجريها، على طريقة باعت، يشرع في تصنيف الخلق، والريشة التي يحتفظ بها كل منا في خياله لم يأت بها من طاووس حاملة معها جمال وخيلاء هذا الطائر، بل تم تصنيعها في ورشته بمادة فكرية خاصة به، لا تتمتع بخاصية المرونة التي تسمح لها بالتشكل طبقا لظروف الزمان والمكان، وكل منا يقنع ذاته بأن ريشته هي خلاصة الحقيقة الكاملة، وما سواها الباطل والجنوح عن الصواب، وفي المجتمعات التي يتراجع فيها العمل والانتاج وتستوطن فيها البطالة والمحسوبية يتمدد طولاً وعرضاً فريق "على راسه ريشة" المتعارف عليه.
ما يجب أن نتوقف حياله هو التغييب لرمزية ريشة "باعت" المتمثلة في العدالة، فلم يعد الحاكم يتطلع أن يسجل التاريخ أنه عاش في باعت، ولم يستوقفه البتة الفارق بين حكم عمر بن عبد العزيز وبقية خلفاء بني أمية، والأهم من ذلك أن ازدياد طابور من على راسهم ريشه في عهده، طبقا لمفهومنا المختزل والخاطيء لهذا المصطلح، لم يعد يؤرقه ويقض مضجعه، بل على العكس تنفرج أساريره لهم لأن فريق المطلبين والمصفقين يتسع، وهم دون سواهم من يمتلك القدرة على دغدغة ساديته وتميزه عن باقي البشر، وهم حفظة أبيات المديح والثناء، وتغيب عنهم مفردات النقد حتى وإن جاءت في صيغة النصيحة.
إن كانت خرافة باعت وريشتها قد سقطت منذ قرون طويلة، فكيف استنطبنا المدلول الخاطئ لها؟ وكيف تجاوزنا مدلول العدالة فيها؟، العدالة التي بنيت عليها الشرائع السماوية قبل أن تتغنى بها القوانين الوضعية، وإن كانت باعت وريشتها لم يعد لهما مكانة في ثقافتنا، فلسنا بحاجة لريشة طاووس هي بمثابة خنجراً في خاصرة العدالة.