دولة في تضاد مع الوطن والشعب

بقلم: إبراهيم أبراش

الشعب ، الوطن ، الدولة ، مفردات تتداخل مع بعضها البعض ويُحيل كل منها للآخر ،وكلها تُحيل لموضوع واحد أو تشكل أهم مكوناته،إنه المشروع الوطني . في الوضع الطبيعي للشعوب المستقلة فإن الدولة تتضمن الوطن والشعب، أما في الحالة الفلسطينية يبدو أن تباعدا وانفصالا،إن لم يكن تعارضا، يحدث بين هذه المفردات الثلاثة، فالشعب مشتت ومُغيَّب وكأنه شاهد زور على ما يجري ويحدث باسمه، والوطن انتماء يحمله الفلسطيني أينما حل وارتحل بوجود الدولة أو بدونها، والدولة بعد خمس وعشرين سنة من الإعلان عن قيامها – 1988-  أصبحت حلما يبحث عن لحظة تَحَقُقِه واقعا ضمن حدود وشروط يتم التفاوض عليها من وراء ظهر الشعب أو على الأقل بدون إرادته .

يتم الاشتغال والصراع  على الدولة والسلطة بدون استحضار استحقاقات الوطن والوطنية وبتجاهل للشعب الفلسطيني وقدرته على الفعل ولو كقوة كامنة يمكن توظيفها على طاولة المفاوضات. السعي المحموم للحفاظ على سلطة في ظل الاحتلال ، أو السعي لدولة (المنحة) من واشنطن أو الشرعية الدولية ،أية دولة، بات يسئ للشعب والوطن لأنها جهود واستحقاقات تنحت وتنتَزِع كل يوم من الأرض الفلسطينية أكثر مما تحافظ عليها وتشوه صورة الوطن أكثر مما تُعظم من شانه . لا فرق بين دولة (المنحة) من خلال التسوية التي ما زالت حتى الآن أمريكية ، والدولة المحررة المزعومة في قطاع غزة التي تقوم بلعب دور وظيفي يحقق مصلحة إستراتيجية للاحتلال وهو الحفاظ على حالة الانقسام، ففي الحالتين فإن الأطراف الخارجية – خصوصا واشنطن وإسرائيل – لها اليد الطولى في رسم حدود الدولة ووظيفتها .

عمل النخبة السياسية للحفاظ على السلطة أو السعي لقيام دولة سواء من خلال المفاوضات الجارية والمراهنة على الشرعية الدولية فقط ،أو من خلال أوهام دولة غزة المحررة التي ستشكل قاعدة منطلق لدولة الخلافة ، يجب أن لا يكون على حساب الشعب الفلسطيني بتاريخه الذي يعود لأكثر من أربعة آلاف سنة وتعدداه الذي يصل لاثني عشر مليونا، والسعي للدولة يجب أن لا يكون على حساب الوطن . الدولة قد تكون جزء من الوطن ، ولكن الوطن اكبر وأهم من دولة منحة من الأعداء أو تفرزها تواضعات وتفاهمات وموازين قوى لا تعمل لصالحنا ، ويجب أن لا يؤدي العمل الدبلوماسي ومناوراته واستحقاقاته إلى تضييع الوطن بما هو انتماء وهوية وكرامة وسيادة .

الوطن يبقى حتى بدون دولة ، والفلسطيني حمل ويحمل معه الوطن أينما حل وارتحل ، والحفاظ على الوطن :الثقافة والهوية والانتماء هو ضمان الحفاظ على القضية الوطنية حية حتى بدون وجود دولة، ولنتذكر جميعا أن الدولة لم تكن هدفا من أهداف المشروع الوطني عند انطلاقته منتصف الستينيات، و لم تكن غزة والضفة أراضي محتلة آنذاك، بل كان الهدف استنهاض الهوية والوطنية والحفاظ عليها وتهيئة الشعب لخوض معركة التحرير . في حالة قيام الدولة بالمواصفات المشار إليها فلن تمثل الشعب الفلسطيني ولن تكون متطابقة مع فكرة الوطن، إن دولة قزمة وبالشروط الإسرائيلية ستفقدنا الوطن وستسيء للشعب ،ولا ضمانات بأنها ستستمر طويلا. ومع ذلك ولو من باب المراهنة على المستحيل ، فإن الحكم على دولة تسوية (حل الدولتين ) في حالة قيامها سيكون من خلال قدرتها على تمثيل كل الشعب وعدم تضييع حقوق من لا يسكن فيها أو يحمل مواطنتها من الفلسطينيين ، وقدرتها على تجسيد الفكرة الوطنية كهوية وثقافة وانتماء وتاريخ.

تكمن خطورة تمركز الجهد الرسمي الفلسطيني في الحفاظ على السلطة الحكم الذاتي والسعي لقيام دولة حسب موازين القوى الراهنة وفي ظل الانقسام ، أن هذه الجهود  لا تحفظ خط الرجعة في حالة فشل التسوية وفشل حل الدولتين ، وخط الرجعة هو الحفاظ على وحدة الشعب وفكرة الوطن وثبات الهوية الوطنية . التركيز على الدولة وحدودها وشكلها ومرجعيتها يُنسينا السؤال الخطير : ماذا سيكون مصير الشعب الفلسطيني في حالة عدم فشل جهود قيام الدولة الفلسطينية في ظل التسوية القائمة، أو في حالة قررت إسرائيل إنهاء الدور الوظيفي لسلطة حماس في غزة ؟ وهل ستنتهي القضية الوطنية بنهاية حل الدولتين ؟. إن الشعب والوطن والهوية والانتماء أمور سابقة على السلطة والدولة ،وسيستمر وجودهم حتى بدون سلطة ودولة ، إنهم شرط وضمان قيام الدولة، ولكن الدولة  بالمقاييس التي يتم تداولها في أروقة التسوية ، ليست شرط بقاء واستمرار الشعب والوطن بل قد تكون في تضاد معهما. 

القيادة وظيفة ، والوطن تاريخ وهوية ومصير شعب ، وبالتالي فإن عمر القضية الوطنية لا يرتهن بعمر قادتها، ونخب لا تثق بشعبها وترهن القضية بذاتها وكأنها تقول ما قاله الملك الفرنسي لويس الخامس عشر : ( فليأت بعدي الطوفان ) هذه النخب السياسية لا يمكنها أن تنتصر على العدو ،والأسوأ من عدم الانتصار ترك الشعب للمجهول . إن أسوأ قيادة لشعب - خصوصا عندما يكون الشعب في مرحلة التحرر الوطني - هي القيادة التي لا تثق بشعبها وقدرته على مواجهة التحديات وخوض غمار المواجهة مع العدو، فلا شعب بدون قدرات وإمكانيات ، ومهمة القيادة توظيف هذه القدرات أو استنهاضها إن كانت معطلة ، وليس الانطلاق من حكم مسبق بأن الشعب جاهل وعاجز ولا يمكن الاعتماد عليه ، ثم الاستعاضة عن الشعب بنخب مصالح تُحقِر الشعب، وتُعَظِم من شان ذاتها ،وتُوهِم الزعيم  بأن المقاومة الشعبية بكل أشكالها أكذوبة ووهم ، وبأن قدرات الزعيم الخارقة لا تحتاج إلى الشعب الفوضوي المتخلف الذي لا يبحث إلا عن لقمة العيش، ولقمة العيش يمكن تأمينها بقدرات الزعيم الخارقة وعلاقاته مع العالم الخارجي ومن خلال التفاوض مع الأعداء!.

القيادة التي لا تثق بشعبها وبالعمل الجماهيري وبقدرة الشعب على المقاومة وعلى إبداع وسائل نضالية لمواجهة الاحتلال لن تقود الشعب إلا إلى طريق مسدود إن لم تكن الكارثة. عندما لا تثق القيادة بالشعب أو تعجز عن توحيده من خلفها تبحث عن حلول وتسويات من خارج العمل النضالي الوطني، إما اعتمادا على ذاتها وعلى نخب المصالح المحيطة بها ، أو تراهن على تحالفات مع أطراف خارجية ، وفي جميع الحالات ستصبح القيادة والشعب والوطن رهينة التوازنات والمصالح والحسابات السياسية الخارجية.

إذا استمرت القيادة ونخبة المصالح المحيطة بها غارقة بمتاهات المفاوضات ، والجري وراء سراب الدولة بعيدا عن إستراتيجية وطنية تدعم المفاوض وتوظف قدرات الشعب من خلال مقاومة شعبية سلمية أو غيرها  ، وإذا استمرت بالحديث عن انتصارات دبلوماسية بها من التضليل والوهم ما لا يقل عن تضليل ووهم المفاوضات ، متجاهلة الشعب والوطن، فإنها ستكتشف بعد فشل مراهناتها على خيار دولة التسوية الأمريكية أنها خسرت أيضا الشعب والوطن.

فشل أو عدم قدرة القيادة – أية قيادة - على تحقيق آمال الشعب ومطالبه الأساسية، أمر وارد ويمكن تفهمه إذا تَلمس الشعب مصداقية عند قادته،ولكن أن يُصاحَب هذا الفشل بفشل في إدارة الأزمة والصراع و فشل في وضع إستراتيجية للحفاظ على الذات الوطنية،وفشل في الحفاظ على ما تم انجازه سابقا،وفشل في إبقاء جذوة الأمل متقدة في قلب وعقل الشعب ،... فهذا هو الفشل المُعمم الذي لا يقبله عقل عاقل ، حتى ممن ما زالوا يحترمون القيادة ويلتزمون بشرعيتها.

‏20‏/11‏/2013

[email protected]