لم أتفاجأ من إتفاق إيران النووي مع دول الكبار (5+1)، بل تنبأت به منذ 30/09/2012م في مقالة نشرت لي تحت عنوان ((النووي الإيراني وزوال إسرائيل))، لم أكن منجماً، وإنما كنت قارئاً، ومحللاً، لواقع العلاقات الإيرانية الإقليمية والدولية، ولأهدافها الوطنية والقومية، ولأوراقها التي استخدمتها من سياسية، ودينية، وشعبية، وعسكرية، وأساليب دوغماتية إعلامية، ومفاوضات علنية وسرية، إلى دبلوماسية مباشرة وغير مباشرة، كان نتاج ذلك أن يعلن الإتفاق المبدئي بينها وبين الكبار، على وضع قواعد واضحة لإنهاء اللعبة، وتخرج إيران منها بالتعادل مع الكبار، وهذا يعني في لغة السياسة الدولية انتصاراً باهراً، فرغم التصريحات الإعلامية المتبادلة على مدى العشر سنوات الفائتة، والتي كانت تشعر العالم والمنطقة أنه بات على شفير الهاوية، وأن الحرب المدمرة والنووية قد تقع بين لحظة وأخرى، كانت رباطة جأش المفاوض الإيراني، تعرف متى يتقدم بطرح البدائل، كما كانت القيادة الإيرانية على ثقة بأنها ستخرج من هذه الأزمة منتصرة ومحققة أهدافها الوطنية والقومية، رغم سنوات الحصار المر، الذي دفع فيه الشعب الإيراني من رفاهه ومن قوته الشيء الكثير، فبقيت الوحدة الوطنية الإيرانية والإلتفاف الشعبي حول القيادة وبرامجها الاستراتيجية، تمثل القاعدة الصلبة، التي يستند إليها الموقف السياسي برمته، والمفاوض الإيراني الحذق، فأتقنت إيران اللعب على الحبال صعوداً، وهبوطاً، وسيراً، دون أن تقع في الهاوية، كما أتقنت شد الحبال دون قطعها، ووقوعها في المحظور، وأثبتت للكبار أنها تتصرف بمسؤولية كبيرة، وتتمسك بأهدافها الإستراتيجية، تمسك الواثق المقتنع بحقها بإمتلاك التقنية النووية، وحقها في الإستخدام السلمي أو المدني، نافية وبشكل صريح نيتها لاستخدامها في الأغراض العسكرية، ويأتي هذا الإتفاق (إتفاق جنيف المبدئي) ليؤكد عملياً هذا الحق المشروع لإيران، ويمنحها الإعتراف الضمني أنها أصبحت عضواً في النادي النووي الدولي لاستخدام الطاقة النووية في الأغراض المدنية والسلمية، ولكن ما انتزعته إيران من أهداف استراتيجية قومية غير معلنة، لا يتضمنها نص الإتفاق مباشرة وهي الجوهر الحقيقي لسياسات إيران منذ الإطاحة بنظام الشاه رضا بهلوي، وهو الإعتراف بالنظام الإيراني الذي أرسى قواعده الخميني وأكمل مسيرته خامئني، وتناوب الرؤساء التنفيذيون على رئاسة الجمهورية الإسلامية، الذين أتقنوا أدوارهم في لعبة التناوب السياسي، تحت عباءة المرشد، من محافظين، إلى معتدلين، فإذا كان أحمدي نجاد لعب صورة المحافظ المتشدد، والذي كان لا يعترف بالمحرقة النازية لليهود، والذي كانت تصريحاته العنترية بمحو الكيان الصهيوني من الخارطة وتثير الشفقة عليه، والذي استفاد منها الكيان الصهيوني، فائدة كبرى غطى بها على تحديه للإرادة الدولية، بإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وحل القضية الفلسطينية حلاً يؤدي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في الخامس من حزيران 1967م في إطار إتفاق سلام يؤدي إلى حل الدولتين (فلسطين- إسرائيل)، فكانت حرب تموز 2006م مع حزب الله جنوب لبنان، ثم حرب 2008م / 2009م مع حماس غزة، وآخرها حرب نوفمبر 2012م أيضاً مع حماس غزة، ثم النفوذ الإيراني في أفغانستان، والعراق، وأخيراً في سوريا، قد وجهت هذه المحطات، رسائل بليغة لكافة القوى الإقليمية والدولية، والكبار منهم خاصة أن إيران لاعب رئيسي، ودولة ذات نفوذ إقليمي، وبالتالي الإقتراب من أهدافها الوطنية والقومية من أي طرف كان، لديها القدرة على الرد وأن يكون ردها موجعاً، ولكنه خارج الجغرافيا الإيرانية، إلى أن جاءت اللحظة المناسبة لتظهر الليونة والمرونة على يد رئيس معتدل اسمه حسن روحاني، فتلتقط إيران اللحظة السياسية المناسبة لتتقدم إلى طاولة المفاوضات برزمة من القضايا، وتعرض بضاعتها بلغة البزار الإيراني، الذي فتح شهية الولايات المتحدة، والدول الأوروبية عليه، في وقت اقتصادي عصيب يمرُ به الكبار، ما يعطي المبررات لهؤلاء الكبار، الذين يجرون خلف مصالحهم لا خلف عواطفهم، وتحين اللحظة الزمنية المناسبة لإعلان الفرقاء عن إتفاق مبدئي وزمني ينهي حالة الأزمة والتأزم بين إيران والكبار، وبالتالي بين إيران ودول المنطقة، بحيث رحب الجميع من دول العالم بهذا الإتفاق، وتمنى له الاكتمال والنجاح في إقرار السلم في المنطقة، وإبعاد شبح الحرب والتحشيد العسكري المنهك والمكلف لكافة دول المنطقة، بإستثناء الكيان الصهيوني، الذي رفض هذا الإتفاق، ويواصل هستيريا إعلامية سياسية تشكيكية في نوايا إيران واستراتيجيتها، ولكنه يسعى هو الآخر من وراء ذلك، أن يقبض الثمن إقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً من الكبار أولاً ثم من إيران ثانياً.
وبالتالي فإن العالم اليوم، الذي حبس أنفاسه، على مدى عقود من سياسات النظام الإيراني، والأكثر توتراً فيها السنوات العشر الأخيرة، قد أنهى إتفاق جنيف هذه الحقبة، وأسس إلى إنطلاق حقبة جديدة في العلاقات مع إيران، على قاعدة الإقرار أولاً: بالنظام الإيراني وبطبيعته الخاصة التي فرضتها الثورة الإيرانية، منذ الإطاحة بنظام رضا بهلوي، ثانياً: الإقرار بالدور الإقليمي للدولة الإيرانية وامتدادات نفوذها في المنطقة الشرق أوسطية، وخاصة في الدول العربية، عبر استخدامها وتوظيفها للطائفية السياسية، سواء في لبنان أو العراق أو سوريا وغيرها، ثالثاً: حق إيران المشروع في الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، وحقها في التنمية الصناعية والتقنية، وبهذا تصبح إيران ركناً رئيسياً مقبولا في النظام الإقليمي للشرق الأوسط الجديد، ويكون قد تم احتوائها على أساس تحقيق أهدافها الوطنية والقومية، التي سعت وناضلت من أجلها، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من عمر الثورة الإيرانية، ونجحت وأتقنت اللعب على الحبال، وبالحبال، مع الصغار ومع الكبار على السواء.
فهل أدرك العرب التجربة الإيرانية، وهل بمقدورهم أن يتعلموا من التجربة الإيرانية، وأن يعيدوا صياغة سياساتهم واستراتيجياتهم على أسس مصلحية تحقق أهدافهم الوطنية والقومية وفي مقدمتها:
1- إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي على قاعدة تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وسياسات الغطرسة والتحدي للإرادة الدولية التي يمارسها الكيان الصهيوني وهو في مأمن من العقاب.
2- حق الشعوب العربية في التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية وفق رؤيا عربية نابعة من الاحتياجات العربية الأساسية في التنمية والتطور والتحديث، لا وفق احتياجات السياسات الخاصة بالآخرين، والتي تفرض على الدول العربية الأخذ بها فرادى ومجتمعة.
إن التجربة الإيرانية حرية بالدراسة وأخذ العبر منها، بعد أن انتصرت إيران وتعادلت بل انتزعت انتصارها انتزاعاً من فمِ الكبار.