ماأن تم الإعلان عن مباديء اتفاق جنيف المرحلي بين دول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي زائد المانيا من جهة وإيران من جهة أخرى الذي جاء محصلة سنوات من جولات التفاوض المكوكية الصعبة كان اجداها المفاوضات السرية التي اجراها "وليام بيرنز" مبعوث الإدارة الأمريكية ومساعديه على نار هادئة مع المفاوضين الإيرانيين في سلطنة عمان شهر مارس العام الجاري وفق مانشرته الصحف الأمريكية وأكدته العديد من المصادر ، حتى استشاط رئيس حكومة الإحتلال غضباً الذي وصف الإتفاق "بالخطأ التاريخي والسيء" تحت ذريعة تسليم الدول الكبرى ببرنامج ايران النووي التي تسعى "لامتلاك القنبلة النووية" حسب زعمه مايعرّض أمن اسرائيل القومي للخطر الوجودي الأمر الذي لن تقبل به وسيجعلها مطلقة اليدين ولو بشكل منفرد للدفاع عن أمن مواطنيها خارج نطاق إرادة المجتمع الدولي وحليفتها الإستراتيجية في واشنطن بعد أن ذهب صراخها أدراج الرياح وفشلت فشلاً ذريعاّ بعملية التجييش الدولي وتحويل انظاره عن القضايا التي تعتبر مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين وفي مقدمتها الإحتلال الغاشم للأراضي العربية والتنكـّر للحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني .
الغريب المسكوت عنه أن اسرائيل الحليفة الإستراتيجية للولايات المتحدة ، هي الإستثناء الوحيد في المنطقة التي تعتبر نفسها فوق القوانين والمواثيق الدولية ويتعامل معها المجتمع الدولي على هذا الأساس حيث تمتلك مئات القنابل النووية فضلاً عن الأسلحة الكيمياوية والفتاكـّة المحرّمة دوليا وترفض قطعاً الإنضمام الى المعاهدات الدولية ووكالة الطاقة الذرية وكذا الدعوات التي من شأنها جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل ، بينما تبيحح لذاتها حق الإحتكار الحصري النووي غير السلمي ثم ترى استخدام الأخرين للطاقة النووية لأغراض سلمية بأنه عمل عدائي موّجه ضدّها ينبغي القضاء عليه مثلما فعلت في الماضي حين دمّرت الطائرات مفاعل تموز العراقي مطلع عقد الثمينات من القرن الماضي إضافةً إلى اغتيال جهاز الموساد الإسرائيلي عدد كبير من علماء الذّرة العرب والمسلمين .
لاشك بأن الدبلوماسية الإيرانية التي اعتمدت سياسة حافة الهاوية بالتعامل مع الولايات المتحدة والدول الغربية بالرغم من العقوبات المؤثرة على الإقتصاد الإيراني نجحت اإلى حد كبير بانتزاع اعتراف دولي بدخولها نادي الدول النووية من حيث المبدأ بغض النظر عن الإتفاق المرحلي المبهم والتفاصيل ونسب التخصيب المذكورة أو الوقت المحدّد لتنفيذه الخاضعة لتفسير كل طرف بما يستطيع اقناع شعبه بالإنجاز الذي حصل ، إذ استطاعت تحقيق اختراق هام في مجال احتكار دول بعينها وحرمان دول أخرى الإستفادة من الطاقة النووية لأغراض سلمية نتيجة الفيتو غير المعلن الذي تفرضه اسرائيل وتستجيب لها قوى النفوذ العالمي وإذعان الدول العربية خاصةً لهذا الأمر مايعني بقائها أسيرة التخلف والتبعية المفروضة عليها مع أن متطلبات النمو السكاني الأخذ بالإزدياد تقتضي تطوير الموارد البشرية والتنموية والصناعية بما يتناسب واحتياجات العصر التقنية والتكنولوجية بدلا من صفقات الأسلحة التي تستوردها بمليارات الدولارات دون استفادة الشعوب منها وتصبّ في مجرى إنقاذ الإقتصاديات الغربية المأزومة ، فهل سيكون اتفاق جنيف فاتحة عهد جديد يحفـّزالأنظمة لبناء مفاعلات نووية عربية للأغراض السلمية أم أنها تنتظر الموافقات التي لن تأتي عن طريق الإستجداء ؟.
لقد استشعرت حكومة الإحتلال مخاطر المتغيرات في العلاقات الدولية الناجمه عن عودة الأقطاب القوية في رسم السياسات الدولية بما يضمن مصالحهما المشتركة والحاجة لإنهاء الملفات الإقليمية العالقة منذ سنوات التي تشكّل أحد عوامل الإستنزاف والكـلف الباهضة في تعميق الأزمة الإقتصادية العالمية الخانقة التي تواجهها الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأمر الذي تجلى بتأييد غالبية الشعب الأمريكي لهذا الإتفاق حسب استطلاعات الرأي العام مايؤكد الإنعطافة الكبيرة في مزاج دافعي الضرائب تجاه السياسة الخارجية الخاطئة التي أرهقت المواطن الأمريكي على حساب اهتماماته وتطلعاته وتحسين مستوى معيشته الإقتصادية والإجتماعية ، وتخشى اسرائيل من فرض نموذج جنيف لحـّل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان الخامس من حزيران عام 1967 م مع اختلاف الإهتمامات والمصالح بين حالةٍ وأخرى، وبالتالي تسابق حكومة الإحتلال العنصري الزمن لفرض سياسة الأمر الواقع التي تحاول تكريسها بما يتناسب ومخططاتها الإستيطانية الإستعمارية على الأراضي الفلسطينية .
ان ردّ الفعل الإسرائيلي الغاضب على الإتفاق لم يكن مفاجئاً لأحد وربما تكون اسرائيل وحدها من تفاجأ بقوة الرسالة الدولية التي يصعب هضمها ، خاصة من قبل الولايات المتحدة حيث أظهرت الحقائق الماثلة للعيان أن مصالحها الحيوية لها الأولوية على ماعداها حتى لو كان الأمر يتعلق بأقرب حلفائها المقرّبين وهو ماشكـّل صدمة قاسية لحكومة الإحتلال اليمينية المتطرفة ، لذلك أراد"نتنياهو مشاكسة الإدارة الأمريكية بطريقته المتغطرسة المعهودة على حساب الحقوق الفلسطينية بوضع العراقيل الجديدة أمام راعي المفاوضات الجارية التي لاطائل منها ، من خلال الإعلان عن بناء ثمانمائة وحدة استيطانية جديدة في القدس وباقي الأراضي الفلسطينية وترسيم مايسمى بالبؤرالعشوائية المقامة على هوامش المستوطنات لغرض نهب المزيد من اراضي المواطنين والتوسع وتصعيد عمليات العدوان والإغتيال بعد التجميد الخدعة المعلن عنه في وقت سابق ، يتزامن ذلك مع تبني سياسة "الترانس فير" الطوعي حسب القائمين على المشروع بهدف تفريغ الأرض من سكانها الأصليين .
يبقى القول عشية اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يصادف التاسع والعشرين من تشرين الثاني كل عام ذكرى قرار تقسيم فلسطين رقم"181" ومرور الذكرى الأولى لحصول فلسطين على مقعد الدولة غير العضو في الجمعية العامة للامم المتحدة لابد من إعادة النظر بالسياسات الفلسطينية القائمة على خيار المفاوضات الفاشلة وبناء سياسة جديدة تستند إلى عوامل النهوض الجماهيري والتصدي للعدوان بكافة الوسائل النضالية والكفاحية التى كفلتها المواثيق الدولية تعيد القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة دون انتظار ، واستثمار مزايا مكانة الدولة العضو بالإنضمام الى الوكالات الدولية المنبثقة عن الأمم المتحدة في مقدمتها محكمة الجنايات الدولية والتوقيع على بروتوكول روما لمقاضاة الإحتلال على جرائمة التي يرتكبها بحق الإنسان الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته .................
كاتب سياسي